مرتفع في الهواء تحته قاعدة، وفوقه قاعدة، يقال: إنه لا نظير له في العُمُد في علوة ولا في استدارته.
قلت: قد رأيت هذا العمود لما دخلت الإسكندرية في رحلتي، ودَوْر قاعدته ثمانية وثمانون شبرًا، ومن المتواتر عن أهل الإسكندرية أن من حاذاه عن قرب، وغمض عينيه ثم قصده لا يصيبه بل يميل عنه. وذكروا أنه لم تحصل إصابته لأحد قط مع كثرة تحريتهم ذلك؛ وقد جربت ذلك مرارًا فلم أقدر أن أصيبه.
وذكر بعض فضلاء الإسكندرية أنها كانت أربعة أعمدة على هذا النمط، وكان عليها قبة يجلس عليها أرسطو صاحب الرصد. وفي هذا العمود يقول الشاعر:
نزيل سكندريةٍ ليس يُقرى ... سوى بالماء أو عمد السواري
وإن تطلب هنالك حرف خبزٍ ... فلم يوجد لذاك الحرف قاري
وأخرج ابن عساكر في تاريخه، عن أسامة بن زيد التنوخي، قال: كان بالإسكندرية صنم من نحاس، يقال له شراحيل. على خشفة من خشف البحر، وكان مستقبلًا بإصبعه القسطنطينية، لا يُدرى أكان مما عمله سليمان أو الإسكندر؛ فكانت الحيتان تجتمع عنده، وتدور حوله فتصاد، فكتب أسامة إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان يخبره بخبر الصنم، ويقول: الفلوس عندنا قليلة، فإن رأى أمير المؤمنين أن نقطع الصنم ونضربه فلوسًا. فأرسل إليه الوليد رجالًا أُمَّنًا، فأنزلوا الصنم فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوين، ليس لهما قيمة، فذهبت الحيتان ولم تعد إلى ذلك الموضع.