للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن كتاب السجع الجليل فيما جرى من النيل:

وأما البحر الذي بنى عليه عنوان هذه العبودية، فلا تسأل عما جرى منه، وما نقلت الرواة من العجائب عنه؛ وذلك أنه عم قدومه بالنفع البلاد، وساوى بين بطون الأودية وظهورها الوهاد. وقدم المفرد مبشرا بوفائه في جمع لا نظير له في الآحاد، واحمرت على ما طلب الغلاء عيونه، وتكفل للمصر بأن يوفي بعد وفائه ديونه، ونزل السعر حين أخذ منه طالع الارتفاع، وأحدق بالقرى فأصبح كأنه سماوات كواكبها الضياع؛ فلم يكن بعد ذلك إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى عسل (١) في شوارع مصر كما عسل الطريق الثعلب، وجاس خلال ديارها فأصبح على زرائبها المبثوثة بسطة، وأحاط بالمقياس إحاطة الدائرة بالنقطة. ثم علت أمواجه، واشتد اضطرابه، وكاد يمتزج بنهر المجرة الذي الغمام زبده والنجوم حبابه.

وشرق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرب حتى ليس للغرب مغرب

إلى أن قال: أما دير الطين فقد ليس سقوف حيطانه، واقتلع أشجار غيطانه، وأتى على ما فيه من حاصل وغلة، وتركه ملقة فكان كما قيل: زاد الطين بلة.

وأما الجيزة فقد طغى الماء على قناطرها وتجسر، ووقع بها القصب من قامته

حين علا عليه الماء وتكسر، فأصبح بعد اخضرار بزته شاحب الإيهاب، ناصل الخضاب، غارقًا في قعر {بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} ، وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء، وترك الصالح كالصالح يمشي على الماء {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص، {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} فنادوا {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} ، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} فانهدت قواهم، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم.

وأما الروضة فقد أحاط بها إحاطة الأكمام بزهره، والكأس بحباب خمره:

فكأنها فيه بساط أخضر ... وكأنه فيها طراز مذهب


(١) عسل، أي سار مسرعًا.