للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ن وَالْآخَرِينَ عَلَى الْوَسَطِ، ثُمَّ نُقِلَ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (١)، فَاقْتَضَى أَن الأَولين أَفضل عَلَى الإِطلاق.

قَالُوا: فَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَكَذَبُوا! لَيْسَ ثَمَّ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ.

وَذَلِكَ أَن التَّعَارُضَ إِذا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرأْي في المنقولات الشَّرْعِيَّةِ، فإِما أَن (٢) لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَصلاً، وإِما أَن يُمْكِنَ، فإِن لَمْ يُمْكِنْ فهذا الفرض يفرض (٣) بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ، أَو بَيْنَ ظَنِّيَّيْنِ، فأَما بَيْنَ قَطْعِيَّيْنِ فَلَا يَقَعُ فِي الشَّرِيعَةِ (٤)، وَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ؛ لأَن تَعَارُضَ الْقَطْعِيَّيْنِ مُحَالٌ. فَإِنْ وَقْعَ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ بَطُلَ الظَّنِّيُّ، وَإِنَّ وقع بين ظنيين فههنا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَالْعَمَلُ بالأَرجح مُتَعَيَّنٌ، وإِن أَمكن الْجَمْعُ، فَقَدِ اتَّفَقَ النُّظَّار عَلَى إِعْمَالِ وجه الجمع، وإن كان له وجه ضعيف (٥)، فَإِنَّ الْجَمْعَ أَولى عِنْدَهُمْ، وَإِعْمَالَ الأَدلة أَولى مِنْ إِهْمَالِ بَعْضِهَا، فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ لَمْ يَرْفَعُوا بهذا الأَصل رأْساً، إما جهلاً به، وإما (٦) عِنَادًا.

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي" هُوَ الأَصل فِي الْبَابِ، فَلَا يَبْلُغُ أحد شَأْوَ الصَّحَابَةِ (٧) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمَا سِوَاهُ يَحْتَمِلُ التأْويل عَلَى حَالٍ أَو زَمَانٍ أَو فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ.

وأَما قَوْلُهُ: "فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ": لَا نَصَّ فِيهِ عَلَى التَّفْضِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جزاءٍ حَسَنٍ، وَيَبْقَى النَّظَرُ في كونه مثل جزاءِ الصحابة،


(١) أخرجه البخاري (٢٦٥٢)، ومسلم (٢٥٣٣) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "خير الناس قرني ... " الحديث.
وأما لفظ: "خير القرون" فهو الذي اشتهر عند بعض أهل العلم ـ ومنهم الشاطبي ـ، ولم يخرجه الشيخان، بل يندر وجوده في كتب الحديث.
(٢) قوله: "أن" ليس في (م).
(٣) قوله: "يفرض" ليس في (خ) و (م).
(٤) في (م): "الشرعية".
(٥) في (خ): "وإن كان وجه الجمع ضعيفاً".
(٦) في (خ): "أو" بدل "وإما".
(٧) في (خ): "أحد منا مبلغ الصحابة"، وفي (م): "أحدنا الصحابة".