للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أدلة استحباب الخروج من الخلاف]

سنتكلم هنا على قاعدة: (الخروج من الخلاف مستحب) إذا نجم خلاف بين العلماء على مسألة من مسائل الدين، سواء كان الخلاف على أن هذا واجب أو مستحب، أو على أن هذا محرم أو مكروه، فهل يكون الخروج من الخلاف مستحباً أو لا؟ إن هذا الخروج من الخلاف هو الذي ينشر المحبة والتآلف بين العلماء وبين الفقهاء، بل وبين طلبة العلم، فيكون الخروج من الخلاف مستحباً.

إن هذه القاعدة استقاها بعض العلماء من الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم).

فيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم أراد نشرا لتآلف بينه وبين أهل مكة في الإسلام؛ حتى لا يفتن أحدهم بهذا الفعل، فلم يفعل ذلك مع أن المستحب للنبي صلى الله عليه وسلم أن تكون الكعبة على قواعد إبراهيم.

لكن الاستدلال بهذا الحديث فيه بعد، وأولى من ذلك الأحاديث التي وردت عن الصحابة الكرام: فعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه سافر مع عثمان فأتم عثمان الصلاة متأولاً، مع أنه كان له أن يقصر في السفر، ولكنه لما سافر إلى مكة أتم الصلاة، وكان ابن مسعود يرى أن القصر هو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه أتم الصلاة مع عثمان، فلما قيل له في ذلك قال: الخلاف شر كله.

فلم يخالف عثمان بل صلى متماً حتى ينحي الخلاف جانباً، وهذا من ابن مسعود إظهار لقاعدة استحباب الخروج من الخلاف.

وكذلك فإن الإمام أحمد قعد هذه القاعدة واقعاً، وذلك عندما سئل عن رجل يصلي بالناس إماماً فنزلت من أنفه الدماء، فهل يُصلي خلفه، أو يجب الخروج من الصلاة؟ وكان الإمام أحمد يرى أن الرعاف مبطل للوضوء، وعليه فيجب على صاحبه أن يخرج من الصلاة، ثم يذهب فيغسل عنه الدم ويتوضأ، وبعد ذلك يستأنف, ولكنهم لما سألوه عن ذلك قال لسائله: أرأيت ابن المسيب ومالكاً إذا صلى تصلي خلفه؟ قال: نعم.

فقال أحمد: مالك وابن المسيب يقولان بذلك، وأباح للمصلي أن يصلي خلف من يتبنى هذا المذهب؛ لأن الخلاف شر كله.

وأيضاً الإمام أحمد جاءه رجل وقال: أرأيت الرجل يقنت في الفجر أصلي خلفه أم لا؟ قال: يا بني: أرأيت الشافعي إن كان يصلي أتصلي خلفه؟ قال: نعم.

قال: إن الشافعي يقول بذلك.

وهذه دلالة على أن الخلاف المعتبر لا يفسد للود قضية.

ونذكر هنا قصة تبين مدى تقدير العلماء وطلبة العلم للعلم وأهله: وذلك أن الإمام الشافعي كان إذا رأى بعض تلامذته قد خالفه في مسألة قال له: أما علمت أن الخلاف لا يفسد للود قضية؟ وأيضاً الإمام الألباني فهو علم من أعلام الشام، بل ومحدث الديار الشامية، رحمة الله عليه من جبل، وحفظ الله من بعده كالشيخ أبي إسحاق وغيره من الذين يسدون مسد الشيخ ويدافعون عن السنة.

والشيخ الألباني كان شديداً في مسألة الإرسال والقبض بعد الرفع من الركوع، فهو يرى أن السنة هي الإرسال، ويرى وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع من البدعة، وهو يتبنى القول بالإرسال، وحصل أن صلى خلف الإمام ابن باز، والشيخ ابن باز رحمة الله عليه كان يرى أن السنة القبض لا الإرسال، وكل منهما له دليل، وهما لا يتكلمان بالهوى، بل يريدان وجه الله جل في علاه، وكل مجتهد مصيب للأجر.

والألباني معروف من هو على من يخالفه! ومع ذلك لما صلى خلف الإمام ابن باز كان إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قبض الألباني مع أنه يرى أن القبض بدعة، ومع ذلك قبض اتباعاً لإمامه، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) على أن هذه اجتهاد منه ومن الشيخ ابن باز والحق مع واحد من الاثنين، فقال الألباني: الخلاف شر كله، وفعل كما فعل ابن مسعود مع عثمان وأتم الصلاة خلف عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

<<  <  ج: ص:  >  >>