[أمثلة تطبيقية على هذه القاعدة]
قلنا الأمثلة على هذه القاعدة تكون في باب المعاملات، من بيوع أو إجارات أو غير ذلك.
فالمثال عليها في باب البيوع: أن رجلاً أراد أن يشتري سيارة من آخر فسأله عن الثمن، فقال: بخمسين ألفاً، فقبل المشتري بالثمن، وأعطى البائع حقيبة فيها ذهب، وقال له: هذه عندك أمانة، ثم أخذ السيارة وذهب.
محل الشاهد في هذا المثال: هو قول المشتري: هذه عندك أمانة، ومعناه: أنه يأتي بعدما يأخذ هذا الرجل الحقيبة فينظر ويقول: هذه في يدي أمانة، وهو أخذ السيارة، ثمنها ليس معي، يستطيع والذهب صاحبه أن يسترده في أي وقت؛ لكونه أمانة، فذهب البائع على الفقيه العالم بالقواعد الفقهية، وأخبره بما حدث، فأفاده الفقيه: أن الذهب الذي استلمه من المشتري ليس أمانة؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، حتى وإن تلفظ المشتري وقال هي أمانة، فإنه لا يقصد أنها أمانة، وإنما أراد أن يجعلها رهناً أو ضماناً لثمن السيارة، فإذا دفع الثمن استرد حقيبة الذهب، فقيل للفقيه: من أين عرفت ذلك، قال: العرف بين الناس، أنه إذا اشترى رجل سلعة ثمينة، ولم يدفع ثمنها فإنه يعطي البائع رهناً أو ضماناً لهذا الثمن، أو لهذه السيارة.
وحكم الرهن يخالف حكم الأمانة، فالأمانة إن أراد أن يستردها صاحبها استردها في أي وقت، أما الرهن فإنه لا يسترده إلا أن يدفع ثمن المبيع، وإن لم يدفع فللمرتهن أن يبيع هذا الرهن ويتقاضى حقه، وهذا له تفصيل آخر في كتب الفقه.
والمقصود بيانه: هو أن اللفظ عندما غاير المقصود قلنا: إن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني.
مثال آخر: رجل أعطى الآخر ساعة، وقال له: خذها هبة لك بعشر جنيهات، فأخذها الرجل وذهب، وبعد ذلك جاءه الذي أعطاه الساعة يريد منه عشر جنيهات، فقال له: أنت وهبتها لي، وقد قبضتها، وقد علمت أن الهبة تملك بالقبض، فأنا قبضت الساعة فهي ملكي الآن، قال: قلت لك: وهبتها لك بعشر جنيهات، فقال القابض: وأنت عندما وهبتها أنا أخذتها وامتلكتها، وليس لك عندي شيء.
فذهبا إلى الفقيه؛ ليفصل بينهما فيما تنازعا عليه، فلما علم الفقيه بما دار بينهما قال للآخر: طالما قال لك: إنها هبة بعشر جنيهات فإنه لم يقصد الهبة، لكنه قصد البيع، وهذا تطبيق لقاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ، فالمفهوم من سياق قوله: خذها بعشر جنيهات هو أنه لا يمكن أن تكون في حكم الهبة؛ لأن الهبة تمتلك بلا عوض مقابل، ولما قال: بعشر جنيهات علمنا أنه أخطأ في اللفظ، فأخذنا بمقصوده وهو البيع والشراء، كأنه قال: بعتها بعشر جنيهات.
إذاً: فالعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليس بالألفاظ والمباني.
وعقود النكاح أيضاً: العبرة فيها بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني.
مثال ذلك: رجل أحب امرأة، وأراد نكاحها امتثالاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (لم أر للمتحابين سوى النكاح)، وكان فقيهاً، فما أحبها إلا للطاعة، فذهب إلى أبيها وقال: ابنتك صالحة، وأردت المرأة الصالحة؛ لأن المرأة الصالحة بركة، ولذلك فإني أطلبها منك زوجة لي، فقال له الرجل الصعيدي: جوزتك ابنتي، وهذه في اللغة لا تصح، بل الصحيح في اللغة: زوجتك، فالصعيدي قال له: جوزتك بنتي، فقال له الآخر: -وكان فقيهاً لكن اللكنة غلبت- جبلت، بالجيم؛ لأن أهل الصعيد ينطقون القاف جيماً، والأصل: قبلت.
ولما وقع الزواج دخل عليهما رجل وقال: هذا العقد باطل؛ لأن هذه الألفاظ التي وقع بها العقد لا تدل على الإيجاب والقبول، فالإيجاب والقبول أن يقول الولي: زوجتك موليتي، ويقول الآخر،: قبلت، وهذا لم تتلفظا به في عقد النكاح، فجاء الفقيه المقعد فقال: أخطأا في اللفظ لكنهما أصابا في المقصد والمعنى، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني، فالعقد يكون عقداً صحيحاً ليس فيه ثمة شائبة.
إذاً: فهذه القاعدة بمجملها تسري في العقود، وفي المعاملات، وفي كل شيء.
وأصل هذه القاعد ودليلها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).