[أمثلة تطبيقية على قاعدة (الحدود تسقط بالشبهات)]
المثال الأول: في عام القحط في عهد عمر بن الخطاب سرق رجل من بيت مال المسلمين، والله عز وجل يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:٣٨]، وهذا لفظ عام سواء سرق من بيت مال المسلمين أو من غيره، وقد سرق نصاباً، فلا بد أن يقام عليه حد القطع، لكن الرجل السارق له سهم في بيت مال المسلمين، فلعله ما سرق إلا سهمه، يعني: أخذ ملكه ولم يأخذ مال الغير، وشرط القطع هو أن يأخذ مال الغير، فهذه شبهة تجعلنا لا نقيم عليه الحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، فالرجل له حق في بيت مال المسلمين، ولعل المال الذي سرقه هو سهمه، بغض النظر عن التفصيلات الفقهية التي تقول: إن كان فوق سهمه أو تحت سهمه، نصاباً أو غير نصاب؛ لأن الغرض هو تطبيق هذه القاعدة.
وبسبب ذلك ترد علينا شبهة، وهي: أن عمر بفعله هذا عطل الحدود، فكيف يرد على من يقول ذلك؟ أولاً: المقدمة غير مقبولة؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يعطل حداً، لكنه استعمل هذا الضابط وهو أن الحدود تدرأ بالشبهات والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدرأ الحد بالشبهة، وكذلك لم يجلد المرأة التي زنت بسبب الشبهة، فالمرأة جاهلة بحكم الزنا فلذلك ما أقام عليها الحد، وأيضاً الذي سرق عام الرمادة ما سرق إلا لحاجة ومن بيت مال المسلمين، وهذه شبهة تسقط الحد فإن قيل: السارق لم يسرق من بيت مال المسلمين، نقول أيضاً: السارق إن لم يسرق من بيت مال المسلمين وكانت هناك مجاعة عامة، فإن هناك دليلاً آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه فتح له الباب ليأخذ ما يكفيه من مال الغير رضي أم لم يرضَ، وقال العلماء: إذا كنت على شفى حفرة من الهلكة، فوجدت طعاماً فاستأذن صاحبه، فإن لم يأذن لك فخذ ما تقيم به صلبك ولا تستأذنه في ذلك ولا حد عليك؛ لأن هذا حق لك أن تدفع عن نفسك الموت، وهذه أيضاً شبهة يدرأ بها الحد.
المثال الثاني: ومن الأمثلة على هذه القاعدة: أن رجلاً كان متزوجاً لكنه لا يكتفي بامرأةٍ واحدة، ولا يستطيع أن يتزوج عليها أخرى، ويخشى على نفسه الهلاك، فسمع عن بلد يفتون بهذه الفتوى فطار على جناح الغراب إلى تلك البلدة فتعاقد مع امرأة على شهر يتمتع بها بمهر معين فتمتع شهراً ثم رجع، فلما رجع قص هذه القصة على أخيه ينصحه ويقول له: إن كنت محتاجاً للنساء وتخاف من امرأتك فلك أن تفعل كذا في بلد كذا، ولما كان الرجل فقيهاً، قال له إن كنت قد فعلت هذا فلا بد أن يقام عليك الحد؛ لأن نكاح المتعة حرام، وأنت بهذا وقعت في الزنا بامرأة أعطيتها أجرة على ذلك، فذهبا إلى فقيه مجتهد يسألونه عن حكم هذه المسألة، فسأله: كيف وقعت على هذه المرأة؟ قال: وجدت حبر هذه الأمة، بحر العلوم، أستاذ التفسير الغواص يقول بذلك فأخذت بفتواه.
فقال هذا الفقيه: إن هذه شبهة قد أشكلت على هذا الرجل وجعلته يقع في هذه القضية فلا يقام عليه الحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، إلا أنه يعزر؛ لأن الواجب عليه أن يرجع إلى أهل العلم يعلمونه المسائل الصحيحة، ليعلم هل هذه الفتوى معمول بها أو غير معمول بها؟ وهل أنكر الصحابة على ابن عباس أو لم ينكروا، وهل أقروه أم لم يقروه؟ المثال الثالث: أن امرأةً طلقت ثلاثاً، وبانت من زوجها بينونةً كبرى -فالواجب عليها أن تعتد بثلاث حيض أو ثلاثة قروء- فجاء رجل فقيه، فقال لها: لم العدة؟ قالت له: لأستبرئ رحمي، فقال لها: استبراء الرحم يكفيه حيضة واحدة، فعقد عليها بعد الحيضة وجامعها، فقيل له لقد وقعت في الزنا وعليك حد الرجم؛ لأنه لا يحل لك أن تتزوجها حتى تنقضي العدة ولن تنقضي العدة، فذهب إلى مجلس أهل العلم يسألهم: ما حكم الرجل الذي جامع امرأة على عقد يراه صحيحاً بعد حيضة واحدة من طلاقها ثلاثاً؟ والعدة إما لحق الزوج لأنه ربما يردها، وإما لحق استبراء الرحم.
وقد استبرأ رحمها بحيضة.
فكان الجواب عليه: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد أفتى بذلك، وهذه الفتوى شبهة تدرأ عنه الحد والتعزير.
المثال الرابع: ومن الأمثلة التطبيقية على هذه القاعدة أن رجلاً أخذ امرأة لها من العمر إحدى وعشرين سنة إلى المأذون وأخبره أنها بلغت إحدى وعشرين سنة، وليست قاصرة، فعقد عليها، وقبضت منه المهر ودخل بها، فجاء أهل العلم وقالوا: هذا الدخول لا يصح، والنكاح باطل، وعليك الحد، لأنك نكحت بغير ولي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل)، وورد عن أبي هريرة رضي الله عنه بسند صحيح: كنا نعد المرأة التي تزوج نفسها -يعني: بغير إذن وليها- زانية، فإن كانت زانية فأنت زانٍ أيضاً؛ لأنك جررتها إلى ذلك فلا بد أن يقام عليك حد الزنى، جلد مائة وتغريب عام.
ولكن هناك رأي معتبر عند بعض الفقهاء بالقياس والنظر، وهو قول أبي حنيفة: أن المرأة إذا كانت لها ذمة مستقلة فلها أن تتولى عقد نكاحها بنفسها وبدون حاجة إلى إذن الولي، فلهذا الرجل أن يقول: أنا آخذ بقول أبي حنيفة.
فإذا ظهر ذلك قلنا: هذه شبهة تدرأ عنك الحد، ومع ذلك فالشبهة التي تدرأ الحد، لا تقلب الحرام حلالاًً، فلا بد أن تعقد عليها عقداً جديداً بمهر جديد بوجود الولي والشهود.
المثال الخامس: أيضاً من صور هذه المسألة: أن رجلاً أعمى وقع على امرأةٍ في الظلام يحسبها زوجته وتحسبه زوجها، وبعد أن جامعها تبين لكلٍ منهما أنه أجنبي من الآخر، فلا حد عليهما؛ لأن هذه شبهة يدرأ بها الحد.
المثال السادس: ومن صور هذه المسألة: أن رجلاً أصيب بمرضٍ في الكلى، فقال له الطبيب: هذه الحصى في الكلى لا تعالج إلا بشرب الخمر، أو البيرة فأخذ الخمر وشرب، فقيل له: لا بد أن يقام عليك الحد وتجلد أربعين جلدة.
فأخبر بمرضه، وأن الطبيب قد أشار عليه بذلك، فذهبوا إلى القاضي فقال: إن الرجل قد شرب الخمر ووقع في الحرام لكنه كان متأولاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله) والطبيب المختص أشار عليه بذلك فهذه شبهة يدرأ بها الحد.
ويستفاد من هذه القاعدة إحسان الظن بالمسلمين، وأن الإنسان مهما يكن على خطيئة فلعل هناك ما أوقعه في هذه الخطيئة، فلا يُتعجل في معاتبته أو عقابه فلعل عنده شبهة أو كان متأولاً بفعله.