نفتتح بإذن الله دروس اليوم في القواعد الفقهية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال شيخ الإسلام: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفقه أو فهم متنه.
أقول: وفهم المتن رأس الأمر، وما عاب كثير من الفقهاء على المحدثين مثل ما عابوا عليهم عدم الانشغال بفقه المتن، فالإمام أحمد بن حنبل كان محدثاً بارعاً وكان فقيهاً، لكن ابن جرير الطبري شيخ المفسرين له كتاب حافل في التاريخ اسمه (تاريخ الأمم والملوك) فـ ابن جرير لما ترجم للإمام أحمد قال: وكان محدثاً.
وسكت ولم يكتب فقيهاً في الترجمة، فجاء الحنابلة فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، حتى إنه انسد الباب من الحجارة التي رميت عليه وضرب بها، فلما مات عموا قبره على الناس، لكن كان رجلاً منصفاً، لما سألوه: ما تقول في أحمد؟ قال: أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وقيل لـ يحيى بن معين: أتعرف أحمد بن حنبل؟ قال: أوتسألوني أنا عن أحمد؟! أحمد إمام الدنيا بأسرها، فـ أحمد مشهور وغني، فـ ابن جرير لما ترجم لـ أحمد في حيز المحدثين لا في حيز الفقهاء فسألوه عن ذلك فقال: لم أر له رأياً فقهياً، وهذا الذي أخذ على كثير من المحدثين، ولذلك يحيى بن معين وكان يتدارس مع بعض المحدثين بعض الأسانيد، فجاءت امرأة فقالت: أسألكم، فقالوا: سلي، فقالت: إني امرأة حائض وقد توفي زوجي، وقد وصى بأن أغسله، أيجوز لي ذلك؟ فتحيروا ولم يحيروا جواباً؛ لأنهم انشغلوا بالحديث وتركوا الفقه، فلم يجب يحيى ولا من معه، فمر أبو ثور الكلبي، وكان من أصحاب الرأي ثم تفقه على مذهب الشافعية، فمر عليهم فقالوا: سلي هذا الرجل، فقال أبو ثور: نعم، أرى أنك تغسلينه؛ فقد كانت عائشة ترجل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف وهي حائض، فهنا أبو ثور استنبطها بالقياس، وهذا القياس يسمى قياس جلي أو قياس الأولى، يعني: هو رأى أن الحي لا يحتاج إلى ذلك، ومع ذلك ترجله عائشة فالميت أولى؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لنفسه.
فلما قاس هذا القياس الجلي نظر يحيى بن معين فقال: هذا الحديث جاءني من طريق فلان وفلان وفلان وفلان وعدد مائة وخمسين طريقاً، فالمرأة اندهشت وقالت: أين أنت لما تعدد لي الآن الطرق؟! وهذه من المآخذ التي أخذها الفقهاء على المحدثين، ولذلك كان يقول ابن رجب الناس مراتب، وأعلى هذه المراتب فقهاء المحدثين، فلذلك سندخل بإذن الله على علم الحديث مع علم الفقه.
أقول: علم الفقه هو أفضل العلوم، كما قال ابن الجوزي: العلم كثير والعمر قصير فأحرى بالإنسان أن يتعلم ما ينتفع به في حياته، يعلم ما يحل وما يحرم، وما يتقرب به إلى الله وما لا يتقرب به إليه، وهذا لا يكون إلا في الفقه، وهذا الفقه ـ الذي هو الفهم ـ طبقات وأعلى طبقات العلماء العالم الفقيه، وهذه كانت موجودة في الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه، ونسأل الله أن يجعله مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان رجلاً صاحب نظرة قوية في الفقه، وهو على فراش الموت سئل: من تزكي من العلماء، قال: لكن أين العالم الفقيه؟ العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على قاعدة قوية من الفقه والاستنباط، بحيث يستطيع أن يبني عليها الفروع، كلما أتاه فرع نقله أو رده إلى الأصل فجاءته النتيجة، وهذه أيضاً مستخلصة من كلام الفقيه الطبيب ابن رشد الحفيد في كتابه (بداية المجتهد)، وهو يقول: بائع الخفاف ليس كصانع الخفاف؛ صانع الخفاف هو المجتهد، أما بائعها: فهو الناقل وهو المقلد، وما أكثر النقلة الذين ينقلون، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: سهل أن تبين الحلال والحرام، وصعب جداً أن كل إنسان يعرف تحرير محل النزاع، ويعرف كيف يرجح ثم يرد على المخالف، هذا هو العلم، أي: العلم بخير الخيرين وشر الشرين، فلذلك قال: العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على القواعد والأصول التي ترتقي به ليكون عالماً فقيهاً، ومن هذه الأصول: أصول الفقه، وأيضاً: القواعد الأصولية.