القاعدة الآنفة الذكر تبحث في البواطن لا في الظواهر، وبها -بفضل الله- نقصم ظهور الذين ينتحلون منهج اليهود، والذين يتحايلون أو يحتالون على الحق، فيسقطون واجباً، أو يحلون حراماً بظواهر صحيحة، ولكن البواطن مخالفة، وهذا من الحيل، فهذه القاعدة تقف أمامهم بالمرصاد، وتقطع حيل كل محتال، والحيل: هي الوسائل التي يتوصل بها صاحبها إلى إسقاط واجب، أو تحليل حرام بعقد ظاهره الصحة، فيأتي أحدهم إلى شيء محرم ليستحله بأمر ظاهره الصحة.
الحيل ثلاثة أقسام: قسم مباح مطلقاً، وقسم ممنوع مطلقاً، وقسم مرسل، ولسنا بصدد القسم المرسل الآن.
أما القسم المباح: فهي الحيل على الأمور التي أباحها الشرع، بحيث لا تخالف الأصول، كالحيلة على الوصول إلى الصلح بين اثنين متخاصمين، كالرجل وزوجته، فيمكن أن يتحايل المرء بحيلة معينة، أو بتعريض معين يجمع بينهما، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح بأنه ليس بالكاذب من ينمي خيراً، أي: الذي يأتي بالخير ليجمع بين الشتات، فهذا ليس بكاذب، والتعريض ليس من الكذب.
ومن الحيل المباحة: أن يحتال على أهل الكفر بالنطق بكلمة الكفر، ولا يكتب عند ربه كافراً، وأشهر مثال يضرب لذلك هو قول الله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:١٠٦]، فـ عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه لما ظن أنه سيهلك تكلم في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له:(قد هلكت، وطلبوا مني القول فيك فتكلمت، فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً لنا الحيلة الصحيحة التي يمكن للإنسان أن يأخذها في مثل هذه المواقف- فإن عادوا فعد)، وهذا تصريح من الشرع بأن هذا مباح.
القسم الثاني: الحيل المحرمة: وهي الحيل على العقود التي منع منها الشرع، فيأتي أحدهم بعقد فاسد ظاهره الصحة، فيستحل به الشيء المحرم، والحيلة على المحرم لا تجوز، ولا يمكن أن تكون حلالاً، حتى ولو كان ظاهر العقد حلالاً، وأمثلة ذلك كثيرة.