[الأقوال في مسألة إنشاء قول ثالث بعد الإجماع]
هذه مسألة أخرى تتعلق بمسألة الإجماع، وهي: إذا اختلف العلماء في مسألة على قولين، فهل يسوغ إنشاء قول ثالث بعد القولين أم لا؟ فمثلاً: التيمم، اختلف العلماء فيه على قولين بعد الاتفاق على الجواز، أي: ما هو الذي يتمم به المرء؟ فالحنابلة والشافعية قالوا: التيمم لا يكون إلا بالتراب، بينما المالكية والأحناف قالوا: كل ما صعد على الأرض يتمم به.
فهل يمكن لمن أتى بعدهم أن ينشئوا قولاً ثالثاً، كأن يقولوا: يجوز التيمم بورق الشجر أو بالزجاج.
فهذا فيه خلاف بين العلماء، والخلاف هنا منشؤه: أنه حصل الإجماع على القولين فلا يسوغ الاختلاف عليه، وهذه مسألة خلافية اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال: القول الأول: الجواز مطلقاً.
القول الثاني: المنع مطلقاً.
القول الثالث: التفصيل.
القول الأول: قالوا: هذا ليس بإجماع، بل اسمه: خلاف، فيسوغ أن يَختلف الناس فيه أيضاً.
القول الثاني: قالوا: أي مسألة اختلفوا فيها على قولين ليس فيها ثمة قول ثالث.
القول الثالث: الذين قالوا بالتفصيل، وهو الراجح الصحيح، قالوا: لا يجوز أن ينشئوا قولاً ثالثاً في القدر المشترك بينهما؛ لأن أي مسألة فيها قولان يوجد فيها اشتراك في جزئية ما، فهذا يسمى إجماعاً، فلا نأتي بقول ثالث في هذه الجزئية، وأما في الخلاف فيجوز أن نأتي بقول ثالث.
وبالمثال يتضح المقال: الله جل وعلا جعل عدة المتوفى عنها زوجها حولاً كاملاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:٢٤٠] لكن قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:٢٣٤] نسخت آية: {إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:٢٤٠]، فيسمى هذا النسخ: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، وهو من باب نسخ القرآن بالقرآن، وأنواع النسخ ثلاثة: الأول: نسخ الحكم والتلاوة.
الثاني: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة.
الثالث: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
فإذاً: عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، لكن إذا كانت امرأة حاملة ومتوفى عنها زوجها، فبأي عدة تعتد؟ قال تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:٤] إذاً: عدة الحامل سواء متوفى عنها زوجها أو غير متوفي عنها زوجها، كأن طلقها: أن تضع حملها.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: قول علي بن أبي طالب وابن عباس قالا: تمكث أبعد الأجلين، أي: لو كانت حاملةً في الشهر الثامن، وبقي عليها شهر واحد حتى تضع، فأبعد الأجلين هنا أربعة أشهر، أما لو كان هناك امرأة حامل في الشهر الثاني وتوفي عنها زوجها، فأبعد الأجلين هنا حتى تضع حملها.
القول الثاني: قول الجمهور، قالوا: المتوفى عنها زوجها إن كانت حاملة فإن عدتها وضع الحمل، واستدلوا على ذلك بحديث سبيعة الأسلمية كما في الصحيحين: (أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما انتهت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: مالي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشراً، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالزواج إن بدا لي).
فبين لها أنها تحل للرجال بعد أن تضع حملها، فهذا دليل قوي على أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع الحمل، وهذا هو الراجح، فإذا طبقنا على هذه المسألة القول التفصيلي هنا: فهل يجوز لنا أن نأتي بقول ثالث أو لا؟ أولاً ما هو القدر المشترك بين القولين؟ القدر المشترك: أنها إذا كانت حاملة فهي في العدة، سواء مر عليها أربعة أشهر وعشراً، أو لم تمر؛ وهذا هو القدر المشترك الذي لا يجوز إحداث قول ثالث يخالفه.
فلو أتى شخص بقول ثالث: لا بد أن تمكث أربعة أشهر وعشراً قولاً واحداً، سواء كانت حاملة أو غير حامل، فهذا قول لا يصح؛ لأنهم اجمعوا على أنتهاء عدتها: إما أبعد الأجلين، وإما وضع الحمل، والقدر المشترك هو وضع الحمل.