[أمثلة للمندوب]
وللمندوب أمثلة كثيرة نذكر منها ما يعضد ما نحن فيه: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:٢٨٢].
قوله: (فاكتبوه): فعل أمر يقتضي الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، لكن جاءتنا قرينة صرفت هذا الوجوب إلى الاستحباب، وهي: قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة:٢٨٣] فلم يذكر الكتابة للقرض، ومفهوم المخالفة في الآية الأخيرة أنه إذا لم يأمن بعضكم بعضاً فلابد من الكتابة، فتكون واجبة عند عدم الأمن، وإذا أمن بعضكم بعضاً فالكتابة مستحبة.
وأيضاً: يقول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:١٠] والانتشار في الأرض مستحب وليس بواجب، وهذا بالاتفاق, وهذا يرجع إلى قاعدة: الأمر بعد الحظر هل هو على الإباحة أم لا؟ وهذا مبحثه في مبحث الأمر، لكن المتفق عليه أن الانتشار في الأرض ليس واجباً، فلو أن رجلاً بعدما صلى الجمعة جلس في بيته ولم ينتشر، فلا نقول له: أنت آثم؛ لأنك لم تنتشر في الأرض! لا؛ لوجود قرينة وهي الإجماع على أن الانتشار ليس واجباً.
وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فـ (بالغ) فعل أمر، والأمر على الوجوب، لكن جاءتنا قرينة تصرف هذا الأمر إلى الاستحباب، وهي ذكر الصوم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالغ في الاستنشاق ما لم تكن صائماً)، وهذا يدل أنه على الاستحباب، وقد يقول بعضهم: هو واجب على غير الصائم، ولا يجب على الصائم.
فنقول: إن القرينة الصارفة عن الوجوب مطلقاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ كما أمرك الله)، وأمر الله هو قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:٦].
فذكر أربعة فروض ولم يذكر غيرها، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم هذا الرجل الذي قال له: (توضأ كما أمرك الله) أن الاستنشاق واجب، بل أحاله على الآية، ولو كان واجباً لذكره له؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلما لم يفعل ذلك دل على أنه مستحب.
وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (صلوا قبل المغرب, صلوا قبل المغرب, صلوا قبل المغرب)، والأمر يدل على الوجوب إلا أن تأتي قرينة تصرفه إلى الاستحباب، والصارف هنا قوله في آخر الحديث: (لمن شاء) فـ (لمن شاء) هنا للتخيير، وطالما خيره فهو مستحب.
وأيضاً: قول الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:٣٣]، فالعبد هو الذي أخذ في جهاد المسلمين مع الكفار، فأخذوه أسيراً فصار عبداً، فإذا أسلم فإن الله جل وعلا حث وأمر أن تكاتب هذا العبد، والمكاتَب هو يكتب على نفسه بالنجوم، فمثلاً يعتق إذا دفع ألف دولار، فيعطى ألف دولار منجمة, أي: في كل شهر قسطاً، فيسقط عليه المبلغ.
فهذا الأمر على الأصل هو للوجوب، وهو مصروف بالقرينة إلى الاستحباب، والقرينة في ذلك: كل مالك أنت حر التصرف فيه بالضوابط الشرعية، والشارع متشوف للعتق؛ ولذلك حث عليه وندب إليه.
وأيضاً: قول الله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:١٤١] فالأكل هنا ليس على الوجوب بالاتفاق، لكنه مستحب أن يأكل من ثمره، وهذا له حكم بليغة، فهو عندما يأكل من هذا الطعام فإنه يحمد الله جل وعلا، ويرى نعمة الله عليه، وينفق منه على القريب.