[ذكر أدلة من أنكر القياس]
لكن الإمام ابن حزم الظاهري سل السيوف وسن الرماح ليقطع رقاب من يقولون بالقياس، ومنهجه هو مثل منهج داود الظاهري، لكن ابن حزم في كتابه (الإحكام) شد الحرب، وشنع على كل من يقول بالقياس، وهذا الرجل له حجة باهرة قوية جداً، لكن عند تدقيق النظر يعلم بطلان هذا القول، والمقصود: أن الذين ينكرون القياس يشنعون على من يقول بالقياس.
ومن الأدلة التي استدلوا بها على رد القياس: الدليل الأول: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:١] فالله جل وعلا لم يقل في البيرة قولاً، والرسول لم يقل في البيرة قولاً، فإذا تكلمت في ذلك فأنت متقدم بين يدي الله ورسوله.
الدليل الثاني: قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦] فأي شيء ستتكلم فيه بدون علم - والعلم عندهم هو: العلم اليقيني، أي: الكتاب أو السنة- فقد تكلمت من غير كتاب وسنة، فأنت ستقفو ما ليس لك به علم.
الدليل الثالث: أن الصحابة ذموا القياس، ومنهم عمر بن الخطاب فإنه قال: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فتكلموا بالرأي).
فذموا الرأي، وأهل الرأي هم أهل قياس.
وأيضاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إياكم والمكايلة)! قيل: وما المكايلة؟ قال: المقايسة.
فحذرهم من القياس.
وورد بسند صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره) لكننا نقف على الأثر، فهذا علي بن أبي طالب رفض القياس، مع أن الشافعي يرى مسح الأسفل والأعلى، ويقيس الأسفل على الأعلى.
فالمقصود: أن علي بن أبي طالب أيضاً رفض القياس.
ثم قالوا: أنتم تدندنون حول القياس، وتقولون: إن الشريعة جاءت بعدم التسوية بين المختلفين، وبالتسوية بين المتماثلين، لكننا نجد الشرع جاءنا بمتماثلين وفرق بينهما، قلنا: كيف هذا؟ قالوا: المرأة تحيض فلا تصلي ولا تصوم، لكن بعد طهرها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وهما متماثلان في الوجوب، فلم فرقتم بين المتماثلين؟ إذاً: أنتم أصلكم باطل، فالشريعة جاءت تفرق بين المتماثلين.
وذكروا أمثلة كثيرة منها: أن السارق تقطع يده، والغاصب لا تقطع يده.
وهم أيضاً يحتجون بأن أول من قاس هو إبليس، فيقولون: إذاً: أنتم تتبعون إبليس، فإبليس هو قائدكم ومعلمكم؛ لأن إبليس هو أول من قاس، فإنه قال كما حكى الله عنه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢].
قالوا: فأنتم تتبعون خطوات إبليس، والله يحرم هذا، كما قال سبحانه: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:٢١].
فنقول: الراجح الصحيح مع الجمهور، وأن القياس دليل من الأدلة الشرعية، وكفى بالأدلة التي سردتها من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والنظر على أن القياس حجة ودليل شرعي.
والله جل وعلا بين لنا القياس بقوله: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:١١] فهو بين أنه يثير السحاب في السماء، ثم ينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه يحيي الموتى كما أحيا هذه الأرض البوار الميتة، فبين هذا بالقياس، والنبي صلى الله عليه وسلم قاس، والصحابة فعلوا ذلك، فلا نعدو الكتاب ولا نعدو السنة ولا نعدو هؤلاء الذين قاسوا، وهم أفضل الأمة، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الرد على المخالف فنقول: إن استدلاله بقوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:١] وأن القائس متقدم بين يدي الله ورسوله، نقول: إن القياس ليس تقدماً بين يدي الله ورسوله، فإن الله بين لنا القياس في كتابه، والرسول قد قاس، فهذا ليس تقدماً بين يدي الله ورسوله.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦] وأنك لو عملت بالقياس عملت بالظن، وظنك هذا قد يكون مخطئاً، إذاً: ستقفو ما ليس لك به علم.
فنقول: إن الأدلة القطعية شرعت لنا الاجتهاد؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر) فهذا ليس بأنه يقفو ما ليس له علم، ولذلك اشترط العلماء أن الذي يقيس لا بد أن تتوفر فيه آلة الاجتهاد وأدواته، وهذا الكلام يقال لمن لا يملك آلة الاجتهاد، لكن المجتهد قد أحال الله العلم عليه، كما قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]؛ لأن أهل الذكر يتدبرون الأمر، ويتدبرون المسألة ويأتون بالنتيجة.
وأما كلام عمر فيحمل على الرأي الذي يصادم النص؛ لأن عمر نفسه أصل القياس، وقال لـ أبي موسى: وعليك النظير بالنظير.
ثم إن في الأثر ما يؤيد هذا التأويل، وهو أنه قال: أعيتهم الأحاديث، فإذاً: هو يذم الذين يأخذون بالرأي مصادمين به النص.
أو نقول: إنه يقصد أهل الأهواء الذين لا يريدون الحق في حال من الأحوال، لكن يضربون بالأحاديث عرض الحائط، وينظرون إلى رأيهم، ويقولون: نقدم العقل على النقل، وهؤلاء هم أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية وغيرهم.
أما قول علي بن أبي طالب: (لو كان الدين بالرأي لمسحنا الأسفل، لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخ)، فنقول: أنه أسند الفعل للرسول، وإذا جاء النص بطل الرأي وبطل القياس، فلا قياس مع النص بحال من الأحوال.
وبهذا تسلم لنا أدلة حجية القياس، وتكون الأدلة المعارضة كلها أدلة ضعيفة لا تنتهض لنفيه.
أما الإشكال الذي أوردوه على قضاء الصوم وعدم قضاء الصلاة فنقول: نحن أصلنا أصلاً وهو: كل قياس صادم النص فهو فاسد الاعتبار، فعندنا نص قال: (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) فندور مع النص حيث دار، إذاً: قياس الصلاة على الصوم قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه مصادم النص.
فهذا وجه.
الوجه الثاني: المشقة؛ فالصوم شهر واحد في العام، فكان أيسر في القضاء، لكن الصلاة كل يوم، فيشق عليها القضاء، والله جل وعلا يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦] فكل ذلك يدل على أن المشقة تجلب التيسير؛ لأن من مقاصد الشريعة التيسير على البشر، فلما خالف القياس هنا مقاصد الشريعة طرح أرضاً ولم نأخذ به.
أما قياس إبليس، فنقول: إنه قياس فاسد الاعتبار؛ لمصادمته النص.
أيضاً لو تنزلنا معه فيكون قياساً مع الفارق؛ لأن الماء أفضل من النار.
ومن النظر أيضاً هناك مستجدات كثيرة جاءت لو لم يكن فيها قياس لضاعت الأمة؛ ولذلك نحن نرى أن الله جل وعلا أراد أن يرفع ويبين لهذه الأمة قدر العلماء بالقياس وبالاجتهاد والنظر، فكل نازلة تنزل ترى العالم يأخذ بالكتاب والسنة ويجتهد حتى يستنبط الحكم من هذا الدليل، ولذلك قال الشافعي: وما من نازلة إلا في كتاب الله جل وعلا، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:٨٩] لكن علمها من علمها، وجهلها من جهلها، والعلم يتفاوت، فمنه علم مستنبط، ومنه علم صريح.