[العام الوارد على سبب خاص]
القسم الرابع: العام الذي جاء على سبب خاص، أي: أن لفظ العموم كان من أجل سبب خاص، وهذه المسألة مهمة جداً، ولذلك قعد العلماء قاعدة مهمة جداً ألا وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
مثال ذلك: حديث أبي هريرة: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإذا توضئنا عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فهذا التعميم ليس للرجل وحده.
مثال آخر: رجل جاء إلى النبي فقال: (يا رسول الله! قبلت امرأة لا تحل لي -أو قال: فعلت معها ما يفعل الزوج مع زوجه إلا أني لم أجامع- فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت، فلما قضى الصلاة قال: أين السائل؟ فقال: أنا يا رسول الله! فقال: صليت معنا؟ قال: نعم، قال: اذهب، ثم تلا عليه قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إلى هذه وحدي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل لأمتي كلها) فهذا لفظ عام، وفيه إجابة على سؤال الرجل بأن كل الحسنات تذهب السيئات، وهذا ليس خاصاً بهذا الرجل، بل هو على العموم كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا إذا جاء العام لسبب يكون العبرة فيه بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالحجة بعموم اللفظ؛ لأن الله جل وعلا لما شرع الشرائع ما شرعها على الأشخاص وإنما التشريع ينزل عاماً، ولذلك قلنا: أي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته، وإن كان الخطاب للأئمة فالنبي صلى الله عليه وسلم يدخل أيضاً في خطاب الأمة.
يقول الله جل وعلا: {يا أيها النَّبِيُّ} [الطلاق:١] ثم جمع فقال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:١]، فالأصل أن الخطاب ينزل للعموم؛ لأن الأحكام لا ترد على الأشخاص بحال من الأحوال.
مثال آخر أيضاً: أن هلال بن أمية جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يتهم زوجته بالفاحشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الرجل صادق، ولما صدق الله صدقه وجعل له مخرجاً، والمخرج هو: آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:٦] فالنبي صلى الله عليه وسلم أتى به وبزوجته وقال: تقسم بالله أنها فعلت الفاحشة أربع مرات، فأقسم أربع مرات، وفي الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وأتى بها ثم بين لها غلظ اليمين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فأقسمت القسم الخامس، وهي كاذبة، لكن المقصود أن هذا اللعان جاء بسبب هلال بن أمية، فهنا العبرة بعموم السبب، وليس خاصاً بـ هلال بن أمية، فأي رجل علم من امرأته أنها تفعل الفاحشة فله أن يلاعن ويقسم بالله أربع مرات، ينفي الولد الذي في بطنها.
مثال آخر: قصة أوس بن الصامت مع زوجته خولة بنت ثعلة عندما جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تسأله عن الظهار، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي قد ظاهر مني وقال لي: أنت علي كظهر أمي، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١] ثم قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:٣] إلى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:٣] فهل هي خاصة بـ أوس بن الصامت زوج خولة؟ لا، بل هي عامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
مثال آخر: حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن بئر بضاعة يلقى فيها النتن والحيض وغير ذلك أنتوضأ منها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الماء طهور لا ينجسه شيء).
فقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) عام جاء لسبب معين، فهل نقول: إن الماء طهور لا ينجسه شيء ببئر بضاعة فقط؛ لأن السؤال كان عن بئر بضاعة؟ لا، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وهنا مسألة مهمة جداً وهي: أن قولنا: جاء لسبب معين، إما أن يقصد به شخص أو بوصف، فما كان بسبب بسبب شخص فالشريعة لا تتعلق بأشخاص، فيكون دائماً العبرة بعموم اللفظ، أما إن كان اللفظ العام هذا جاء بسبب حالة أو بسبب وصف معين فإنها لا تعمم، بل تبقى على هذه الحالة فقط، ويقاس عليها مثلها.
مثال ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يظلل عليه فقال: ما له؟ قالوا: صائم -فهنا الحالة: الصيام في السفر وهم يظللون عليه لما حصل له من مشقة شديدة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر) فالعموم هنا: أن أي صيام في السفر ليس من البر، سواء كان نفلاً أو فرضاً، وسواء كان مستطيعاً أو غير مستطيع.
فنحن هنا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ العام بسبب وصف حالة، ولا نقول: العبرة بعموم اللفظ، وذلك لوجود قرائن تثبت أنه مخصص بهذه الحالة، يعني: كأن التقدير: ليس من البر أن يصوم الرجل الذي يشق عليه الصيام في السفر.
فإن قيل: ما الدليل الذي جعلنا نقدر مع أن الأصل عدم التقدير؟ فنقول: القرائن كثيرة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر كما في حديث أبي موسى وغيره، وذلك في وقت اشتداد الحر، فقال: (وما منا صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة)، فهذه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر.
كذلك: الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأن له القدرة على الصيام وهو يسافر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت فصم وإن شئت ففطر)، فقوله: (إن شئت فصم) دلالة على أنه من البر أن يصوم.
وعليه فيكون الصيام في السفر ليس من البر عندما يشق على الرجل أو يكاد يموت من هذا الصيام.
مثال آخر أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الرضاعة من المجاعة).
وقال: (لا رضاع إلا في الحولين) أي: في السنتين، بمعنى: أن الرضاع المحرِّم هو ما يكون عند الصغر فقط.
وكان سالماً مولى أبي حذيفة كبيراً في السن، فجاءت زوجة أبي حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله في شأنه، فقال: (أرضعيه تحرمي عليه).
فنحن نقول كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذه واقعة حال فلا تعمم، وليس كل كبير يأتي فترضعه المرأة فتحرم عليه، لكن يقاس عليها إذا وجد يتيم قارب أو ناهز الاحتلام ولم يكن له مأوى إلا هذا البيت، ويريد صاحب البيت كفالته حتى يبلغ سن الرشد، فله أن يجعل امرأته تعصر له اللبن في زجاجة -مثلاً- فيرضع خمس رضعات حتى تحرم عليه.