[العام المخصوص]
القسم الثاني: عام دخله التخصيص، أي: عام جاء فيه التخصيص.
فمثلاً: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:٩٧]، فـ (الناس) معرف بالألف واللام وهما للاستغراق، أي: أن كل الناس عليهم حج، لكنه في السياق نفسه خصص فقال: {مَنِ اسْتَطَاعَ} [آل عمران:٩٧]، يعني: ليس كل الناس عليهم الحج، وإنما يكون الحج على المستطيع.
وأيضاً: يمكن التخصص بالحالة، وذلك كما جاء في قصة الرجل الذي صام في غزوة الفتح فمر عليه النبي وقد ظلل عليه فقال: (ليس من البر الصيام في السفر)، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك على حالة هذا الرجل، فنقول: هذا تخصيص بحالته، يعني: كل رجل لا يستطيع الصوم في السفر أو سيهلك إذا صام في السفر فلا يجب عليه، بل ليس من البر أن يصوم، ولا يجوز له أن يصوم بل يأثم إن صام، وقد وقع الخلاف الفقهي بين الناس في كون صيامه مقبولاً أو أن عليه القضاء.
ومن العام المخصص قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:٦٨] فالعموم هنا: أن كل من يقتل ويزني ويدعو مع الله غيره، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه، ثم خصص بقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [مريم:٦٠].
إذاً: فليس كل عاص أو كل مشرك سيضاعف له العذاب؛ لأن من تاب تاب الله عليه.
وهنا
السؤال
ما الفائدة من قولنا: إن هناك عاماً باقياً على عمومه، وعاماً مخصصاً؟ أقول: هذا التفصيل يهم أهل الفقه، إذ أن العام الذي يبقى على عمومه أقوى في الدلالة من العام الذي قد خصص، فإذا تعارضا في الظاهر -إذ لا تعارض بين الأدلة فكلها من مشكاة واحدة، لكن قد يظهر للمجتهد التعارض بين العام الذي بقي على عمومه وبين العام الذي خصص -فإن العام الذي بقي على عمومه يتقدم على العام الذي خصص ودخله التخصيص؛ لأنه أقوى في الدلالة.
مثال ذلك: جاء في الصحيحين عن ابن عباس: أنه قال (شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر بن الخطاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ونهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فهذا عام في كل الدخول.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، عام لم يدخله تخصيص، أما حديث ابن عباس: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر) فهذا عموم، أي: في كل صلاة، لكن خصص بقضاء الفائتة من السنن الرواتب، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي سنة الظهر بعد العصر، وأيضاً في الحديث الصحيح -رغم أن بعض العلماء ضعفه-: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يصلي بعدما صلى الفجر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آلفجر مرتين؟ فلما بين له الرجل أن هذه هي سنة الفجر أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكر عليه).
فهذا فيه دلالة على أن النهي عن الصلاة بعد الفجر مخصوص وليس عاماً، فإذا دخل الخصوص على العام أضعف دلالته، أما العام الباقي على عمومه فنقدمه لقوة دلالته، كحديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، وصيغة العموم فيه: (أحدكم) فهو نكرة في سياق الشرط، فـ (إذا) شرطية، و (حتى يصلي) غائية، والغاية تبين الخصوص (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي) فإذا قلت: (يجلس) من الجلوس فيمكن أن يكون مصدراً، فنقول: نكرة، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فقوله: (أن يشرك به) مصدر مؤول من الإشراك، والإشراك نكرة.
قوله: (أحدكم) مفرد مضاف فيعم كل داخل، وأيضاً: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ما نقول: نكرة في سياق الشرط، ولكن نقول: الشرط يفيد العموم، فنقول مثلاً: أعط زيداً إذا جاءك درهماً، فهذه جملة شرطية، يعني: كلما جاءك زيد فأعطه الدرهم، ونفس الأمر في قوله: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فهذا العموم لم يدخل عليه ما يخصصه فيبقى على عمومه.
أما العموم الثاني في قوله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ونهى عن صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس)، هنا: (صلاة) نكرة في سياق النهي فتفيد العموم، لكن هذا العموم قد دخله التخصيص، وهو الحديث الذي سبق ذكره: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر سنة الظهر التي شغله عنها تفريق المال، وأيضاً حديث الصحابي الذي صلى بعد الفجر.
فهذا العام الذي دخله المخصص أضعف دلالته، وأما الآخر فهو باق على عمومه لم تضعف دلالته فيقدم عليه.
إذاً نقول: العام الذي دخله التخصيص وهو النهي عن الصلاة بعد العصر بعد الفجر ويقدم عليه العام في دخول المسجد وهو الذي لم يدخله التخصيص.
ونقول هنا: لكن إذا دخل المسجد بعد العصر فهنا يتعارض العام الأول مع العام الثاني، العموم الأول: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر، والعموم الثاني: أنه إذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي.
فيعمل بالعموم الثاني؛ لأنه لم يدخله التخصيص فيضعف دلالته، لكن الأول لما دخله التخصيص أضعف دلالته، وبعض العلماء مثل له بمثال آخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب) (صلاة) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
وهنا مسألة تتعلق بقراءة الفاتحة للمأموم، فالذين يقولون بأن المأموم لا يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية قالوا: قراءة الفاتحة عامة دخلها الخصوص، وهو أن المأموم إذا أدرك الإمام راكعاً يركع وتحسب له ركعة، واستدلوا بحديث مختلف في صحته، حيث ضعفه البخاري وغيره، ولكن صححه كثير من أهل العلم قال: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة).
ويحتجون أيضاً بحديث أبي بكرة -وهو صحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد) فقالوا: باتفاق الفقهاء (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة)، وهذا مخصص لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن).
وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:٢٠٤] عموم ليس له مخصص، فالآية تقدم على الحديث الأولى، لأنها عامة لم يدخلها التخصيص، وهذا قوي جداً من وجهة النظر، لكن عند التأمل نقول: هذه الآية دخلها التخصيص وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر، فقام رجل فقرأ مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من ينازعنيها؟ من يخالجنيها؟ -يعني: من يقرأ وأنا أقرأ- فقال رجل: أنا يا رسول الله! قرأت بسبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل إلا بأم الكتاب).
إذاً هذه الآية دخلها التخصيص يبقى عموم هنا، ويبقى لنا أن ننظر أيهما أقوى، فيفصل في النزاع أنه قال: (إلا بأم الكتاب) فلابد وجوباً أن تقرأ الفاتحة حتى ولو كان الإمام يقرأ الفاتحة.
وهذا أيضاً من باب أنه إذا تعارض العام مع العام ننظر أيهما دخله التخصيص فتضعف دلالته، وأيهما لم يدخله التخصيص فلم تضعف دلالته.