للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر أدلة من قال بالقياس]

القياس حجة ودليل من أدلة الأحكام، وقد ثبتت حجية القياس بالكتاب والسنة والنظر.

أما بالكتاب: فقد قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:٢] فعندما ألحق الله العذاب ببني النضير قال لأهل الإسلام: اعتبروا يا أولي الأبصار! يعني: اعلموا أنكم لو فعلتم مثل فعلهم فسيكون العقاب نفس العقاب.

فالأصل: بنو النضير، والفرع: المسلمون، والعلة: التعدي.

وقال الله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:٥] ثم قال: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:٣٩]، فهنا قياس البعث في اليوم الآخر بإحياء الأرض بعد موتها، فالأصل: الأرض الميتة، نزل عليها الماء فاهتزت وربت؛ لأن الله أحياها بهذا الماء، والفرع: الإنسان، يموت فيبلى ويبقى عجب الذنب، فهذا الفرع نلحقه بالأصل، فيحيا كما أحيا الله الأرض، فإن السماء تمطر مطراً كالمني، فيأتي على عجب الذنب، ثم يقوم حياً مبعوثاً من قبل الله جل وعلا، فيبعثه الله ويحييه كما يحيى هذه الأرض.

وأما الأدلة من السنة على إثبات القياس فهي كثير منها: ما ورد في الصحيحين عن ابن عباس: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضية إياه؟ فقالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى).

فقوله: (أرأيت) فيه ضرب مثل، وضرب الأمثال قياس، فالأصل: دين الآدمي على الآدمي، والفرع: دين الله، والحكم: وجوب قضاء الدين، والعلة: وجود الدين، والدين للآدمي فيه مطالبة، فلا بد أنك تقضي الدين، وأيضاً حق الله لابد من قضائه، وهذا قياس اسمه: قياس الأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فدين الله أحق أن يقضى) أي: من باب أولى، وهذا اسمه قياس جلي.

وفي حديث آخر: (جاء رجل مغضباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت ولداً أسود) هو أبيض وامرأته بيضاء، وأتت بولد أسود، فالأمر فيه ريبة، فجاء يعرض بامرأته، وفيه دلالة على أن التعريض لا يقام بموجبه الحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألك بعير؟ قال: نعم، قال: ما لونها؟ قال: حمر، فقال: أفيها أورق؟ - يعني: لونه مختلف- قال: إن فيها أورقاً، فقال: من أين هذا؟) يعني: إن كان هؤلاء حمراً، وهذا جاء: لون رصاصي، ولون مختلف عن اللون الأحمر، فمن أين جاء هذا اللون؟ (فقال: يا رسول الله! لعله نزعه عرق) يعني: جد البعير الكبير له نفس اللون، فنزع العرق منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وولدك لعله نزعه عرق) فهذا أيضاً قياس، فالأصل: الإبل المختلفة الألوان، والفرع: الآدمي، والحكم: أن الاختلاف في اللون لا يدل على الزنا، ولا يدل على أنه أصلاً أدخل عليه ما ليس منه.

وعلة الإلحاق: العرق الموجود في الجلد أو في غيره.

والمقصود: أنه بين له وضرب له مثلاً يجعله يعرف أن هذا ليس بزنا، وهذا من باب القياس.

والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقيسون الوقائع التي تنزل عليهم.

مثال ذلك: ما ورد في الصحيحين عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه).

فـ ابن عباس نظر فجعل العلة عدم القبض، فقال ابن عباس: (وأحسب كل شيء مثل الطعام، أو قال: أحسب كل شيء ينزل منزلة الطعام)، فقاس غير الطعام على الطعام.

فلو أن رجلاً اشترى سيارة من معرض سيارات، فلما اشتراها تركها اتصل بوكالة، فباع لها السيارة، وصاحب الوكالة قال له: الشيكات عندي فابعث الوكيل أو الأجير الذي عندك ليأخذها، فبعثه فأخذ الشيكات والرجل في بيته، فذهب الرجل وأخذ السيارة، فهذا البيع لا يصح لعدم القبض.

والقبض في المنقول أن ينقله، وفي الذي لا ينقل يكون القبض بالتخلية.

ومعنى ذلك: أن المنقول -وهو الشيء الذي يحمل- يؤتي به إلى مجلس العقد، والسفن منقولة أيضاً لكن لأنها كبيرة جعلوها كغير المنقول، والعمارات والبنايات والشقق يكون القبض فيها بالتخلية، وذلك بأن تعطيه المفتاح.

ففي المثال السابق لم يقبض السيارة فلا يصح البيع، فأنا أعرج على كلام ابن عباس: (أحسب كل شيء كالطعام)، إذاً: كل شيء يشترى -سيارة، حديد، مكينة- لا يباع حتى يقبض وحتى ينقل، وهذا قياس من ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

وكذلك كثير من الصحابة كانوا يقيسون، وبعث عمر بن الخطاب بكتاب تلقته الأمة بالقبول إلى أبي موسى الأشعري ينصحه ببعض النصائح، ثم بين له القياس، فقال: (وعليك بالفهم).

وكان بعض علمائنا يقول: الفهم كل العلم، أو الفهم شطر العلم.

والفهم هو دقة النظر في الأدلة، وهذا هو الذي ينبغي على طالب العلم، ولذلك تجد في هذا العصر علماء يعلمون الحلال من الحرام لكنهم ليسوا بفقهاء، فهم علماء لكنهم ليسوا بفقهاء؛ لأنهم لا يدققون النظر، فالفهم عال جداً، فيرتقي به العالم عن العلماء أجمعين بدرجات، أما رأيت أن الله قد قدم سليمان عليه السلام على داود عليه السلام بسبب الفهم مع أنه قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:٧٩].

فقال عمر لـ أبي موسى: (الفهم الفهم فيما يأتيك، وعليك بالنظير والنظير، يعني: إذا أتتك المسألة ولا تعرف لها دليلاً، فانظر إلى نظيرها من الشرع ثم قف عليه.

والمزني تلميذ الشافعي صاحب (المختصر على الأم) قال: أجمع الفقهاء الذين رأيناهم على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل.

فهذه أدلة من يقول بالقياس من الكتاب والسنة وآثار الصحابة ومن بعدهم.

ومن النظر نقول: إن الله جل وعلا خلق الخلق، وشرع الشرائع من أجل التسهيل عليهم، ومن أجل تكميل مصالحهم، فمقاصد الشريعة جاءت بإكمال المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، فهذا مقصد من مقاصد الشريعة، والقياس يحقق هذا المقصد.

ومن النظر أيضاً هناك مسائل كثيرة جداً لم تذكر في الكتاب ولا في السنة، فألمح الله للمجتهدين أن يقيسوا فقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:٨٣] فهذا الاستنباط هو من باب القياس.

<<  <  ج: ص:  >  >>