للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أحوال النسخ في الكتاب والسنة]

إذا قلنا: إن الكتاب ناسخ، فالآية تنسخ الآية، أي: أن الكتاب ينسخ بالكتاب، وهذا بالاتفاق عند أهل العلم كما بينا في أمثلة القرآن، وهذه هي الحالة الأولى.

الحالة الثانية: نسخ الكتاب بالسنة، وهذا على خلاف عريض بين أهل العلم، فالجمهور: يرون أن الكتاب ينسخ بالسنة، وتصدى الشافعي للجمهور فخالف وقال: الكتاب لا ينسخ بالسنة.

أما الجمهور فقالوا: الأصل في النسخ تبديل الأحكام، والقرآن والسنة وحي من الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وقال الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:٣٤]، فبالاتفاق أن الآيات هي: القرآن، والحكمة هي: السنة، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤].

إذاً: فالكتاب والسنة وحي من الله جل وعلا فيمكن أن ينسخ، واستدلوا على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا وصية لوارث).

إذاً: الوارث لا يوصى له، فلا توصي وتقول: إن الربع هذا لأبي أو لأمي؛ لأن الأب يرث والأم ترث، فهل لي أن أقول: أوصيت ببيتي هذا لابنتي الوحيدة؟ لا يصح؛ لأنها فرع وارث.

فلو أن رجلاً له: بنت وأخت، فأوصى لأخته بسيارته وقال: أختي هذه تذهب إلى المساجد تتعلم، فأوصي بسيارتي لها، هل الوصية باطلة؟ نقول: الآن لنا حالتان: الحالة الأولى: إن كانت الأخت ترث فلا وصية لها.

الحالة الثانية: إن كانت الأخت حجبت بالفرع الوارث، كأن يكون عنده ولد مثلاً فحجبها، فلها الوصية.

فهي لها حالتان: حالة ترث، وحالة لا ترث، فالتفصيل هو الصحيح، فإذا كانت وارثة فلا وصية لها، وإن لم ترث فلها الوصية.

فالجمهور يقولون: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) نسخ لنا آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٨٠]، إذاً: الأم والأب لابد أنك تكتب له وصية بالميراث، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا وصية لوارث)، فنسخ هذا الحكم؛ لأن الأم سترث والأب سيرث، فإذاً: لا وصية لهما بهذا الحديث، فجاء الحديث فنسخ هذه الآية.

أما الشافعي فيقول: لا تنسخ السنة الكتاب، وله أدلة أوضح من شمس النهار، يقول: أولاً: قال الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة:١٠٦]، وهل السنة خير من القرآن؟ لا، القرآن فيه آيات يفضل بعضها على بعض، لكن السنة ليست بخير من القرآن.

ثانياً: أجاب على أدلة الجمهور، فقال: أما الدليل الذي استدللتم به: (لا وصية لوارث)، فهذا ليس بناسخ وإنما هو مبين للناسخ، قلنا: كيف؟ قال: الناسخ لهذه الآية هو قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ} [النساء:١١] ففرض الفروض: فجعل للأب كذا وللأم كذا وهنا بهذه الآية نسخ الوصية، فجاء الحديث مبيناً لهذا الناسخ وليس بناسخ بذاته، فهذه الآية التي بينت الفرائض في الكتاب هي الناسخة لهذه الآية.

وصراحة كان كلامه أقوى مما يكون، وهذا الدليل قوي جداً، ولذلك الجمهور ما عرفوا كيف يردون على الشافعي أولاً، وما عرفوا أن يأتوا بدليل أو بمثال آخر يكون فيه سنة نسخت القرآن.

ولذلك إن قلنا: نحن مع الجمهور أصبحنا من المقلدة، وما عندنا دليل، وإن قلنا: نحن مع الشافعي فالمسألة حقاً صعبة؛ لكن الجمهور عادة يكون الحق مائلاً لهم، إلا أن يظهر دليل واضح للفرد فيكون الحق معه، والمقصود أن هذا خلاف معتبر، والراجح قول الجمهور على مضض.

<<  <  ج: ص:  >  >>