من أمثلة النسخ في الكتاب: المثال الأول: كان الله جل وعلا يأمر المؤمن أن يقف أمام عشرة من المشركين ولا يحل له أن يفر منهم، ولو فر فقد وقع تحت الوعيد الشديد قال تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا}[الأنفال:١٦]، ثم قال:{فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}[الأنفال:١٦]، فهذا وعيد شديد من الله لمن يفر من العشرة، قال:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال:٦٥]، ثم نسخ الله هذا الحكم، فكان للمرء أن يفر من ثلاثة، فنسخه من العشرة إلى الاثنين، قال تعالى:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}[الأنفال:٦٦]، فإذا كانوا اثنين فليس له أن يولي دبره، ويكون من الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:(والتولي يوم الزحف)، أي: أنه من الموبقات، فلو كان هناك جنديان من اليهود مع جندي مثلاً من الفلسطينيين فليس له أن يفر، لكن لو كانوا ثلاثة له أن يفر منهم، فإن الله جل وعلا خفف من عشرة إلى اثنين، فهذا نسخ للحكم السابق.
المثال الثاني: قال الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[البقرة:١٨٧]، ثم قال:{فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}[البقرة:١٨٧]، كان الحكم أن الذي يصوم إذا نام قبل سقوط الشمس حتى خرج وقت المغرب لا يأكل ولا يشرب ولا يجامع النساء، حتى ولو جاء عليه المغرب، أي: أنه لو جاء إلى وقت سقوط حاجب الشمس فنام قبل أن يأكل، فإذا استيقظ لا يجوز له أن يأكل ولا يمس النساء، فيبقى صائماً إلى اليوم الثاني، هذا كان حكماً شاقاً على الصحابة، ولذا جاء أحد الصحابة إلى امرأته بعدما تعب تعباً شديداً في عمله، فقاربت الشمس على المغيب؛ فجهزت له الطعام وجهزت نفسها له، فلما ذهبت لتأتي بالطعام وقد سقط حاجب الشمس وجدته نائماً، فكلمته كلمة شديدة معاتبة له؛ لأنه إذا استيقظ ليس له أن يأكل أو يأتي امرأته؛ فخفف الله ونسخ هذا الحكم على المؤمنين، وذلك بأنه إذا سقط حاجب الشمس نام أم لم ينم، له أن يأكل ويشرب، وله أن يأتي النساء قال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}[البقرة:١٨٧]، وقال:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}[البقرة:١٨٧].
المثال الثالث: قال تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}[البقرة:٢٨٤] أي: أي شيء من الخواطر القلبية ستحاسبون عليها، فشق ذلك على الصحابة؛ فأنزل الله:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة:٢٨٦]، فقال الله:(قد فعلت قد فعلت)، فنسخ الحكم الأول بالحكم الثاني، وهذا من سنة التدريج، وكذلك فيه نسخ.
كذلك تحريم الخمر تدرج الله عز وجل في تحريمه، فكان أول ما نزلت فيه آية تبين أن الخمر فيه منافع ومساوئ، والمساوئ أكثر.
ثم حرم الله شرب الخمر والاقتراب منها وقت الصلاة، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النساء:٤٣] ثم بعد ذلك قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}[المائدة:٩١].