الحكمة من النسخ: أولاً: مراعاة مصلحة العباد في سنة التدرج؛ لأنه كما قالت عائشة: لو جاء فقال: الخمر حرام ما سمع الناس ولا أطاعوا، لكن الله جل وعلا درج العباد بسنة التدريج حتى يتهيئوا للأحكام، ولذلك قلنا: من الفقه أن الإنسان لو أراد أن يقيم سنة أنه يعلم الناس مرة ومرتين وثلاث حتى يعرفوها، مثل السنة التي هجرت في هذه البلاد وهي: أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب بالناس اتكأ على الرمح، ولذلك هذا الشيء لا تجده في خطيب بحال من الأحوال، وهذه سنة قد هجرت، ولابد لأحد أن يقيمها، ولكن حتى تقوم أنت بها علم الناس مرة ومرتين وثلاث، ثم ائت بها حتى لا تنكر.
كذلك: سنة الإسرار بالبسملة، آية من آيات القرآن، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها أحياناً ويسر كثيراً، وما رأيت إماماً واحداً يفعل ذلك، فيسر بالبسملة إلا أهل التصوف الذين هم ليسوا طلبة علم، ولكن يقولون: نحن شوافع هذا هو الذي عندهم، ونحن نقول: السنة أنه يجهر أحياناً بالبسملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر أحياناً.
كذلك: من السنة التي هجرت وأصبحت المسألة إذا بدلت صارت كأنها بدعة: التزام الدعاء بعد الخطبة، الخطيب لا يدعو إلا في آخر الخطبة، فهو يدعو والناس يرفعون أيديهم ويؤمنون آخر الخطبة، وهذا أيضاً ليس من السنن، بل السنن التي هجرت كما في صحيح مسلم:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو أول الخطبة، ووسط الخطبة، وآخر الخطبة)، أما التزام الدعاء آخر الخطبة فهذه ليست من السنة.
ثانياً: اختبار المكلفين بالسمع والطاعة، فينزل عليهم الأحكام اختباراً لهم، ليرى الانقياد الذي هو عمل القلب والاستسلام لله، ولذلك قال الله تعالى:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[الأنفال:٣٧]، ولو شاء الله لانتصر المسلمون، ولكن الله يبتلي بعضهم ببعض:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[الأنفال:٣٧]، فتن تنزل على المساجد وأئمة المساجد، فهذه الفتن تغربل البشر حتى يميز الله جل وعلا من الذي يصدق مع الله ويعمل لله من الذي لا يصدق مع الله أو يعمل لله.
وإذا وقف المرء أمام الله في عرصات يوم القيامة فحاسبه على ما في قلبه كانت له الحجة، فيقول: يا رب! ابعث لي آية ابعث لي رسولاً، وأمرني، وأنا سأقول: سمعت وأطعت، مع أن الله يعلم أنه كاذب، فالله يخرج ما في قلبه ويبتليه في الدنيا، اللهم استر علينا يا رب العالمين وثبتنا عند كل بلاء.
فالغرض المقصود هو:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}[الأنفال:٣٧] يختبر العباد بالنسخ، ولذلك ترى اليهود لما اختبر الله العباد بتحويل القبلة تذمروا، فقال تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}[البقرة:١٤٢].
رابعها: أن يبتلى العبد بالنسخ ليشكر ربه؛ لأنه ينسخ الأحكام الثقيلة إلى الأحكام الخفيفة، فيحمد العبد ربه على ما يسر عليه من أمور الدين والشريعة، ولو كان المرء يعمل بما أمر الله أولاً ما استطاع، فقد فرض الله علينا خمسين صلاة، وكان موسى يراجعه فيقول: ارجع إلى ربك، فإني قد خبرت الناس قبلك ولا يستطيع قومك، فيرجع النبي صلى الله عليه وسلم ليراجع ربه، فنسخها الله من خمسين إلى خمس.