أولًا: أَنَّهُ إذا نزل عليه فترة بعد فترة استقرَّ فؤادُه، وعرف استمرار رسالته، وانظُرْ إلى حال النَّبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عند فترة الوحي ماذا كان يصنع؟ كان يخرج إلى الجبالِ حتى يوشك أنْ يَتَرَدَّى من الجبالِ؛ لِأَنَّهُ فقد ما كان أحسَّ به أوَّلًا، فهذا تثبيتٌ يثبِّت قلب الرَّسول؛ لِأَنَّهُ رسول ولأن رسالته لم تَنقطِع، هَذَا وجهٌ.
وجهٌ آخرُ: أَنَّهُ يُثَبِّتُ قلبَ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كلَّما أُورِدَ عليه شُبهة، فينزل القُرْآنُ مجُيبًا عنها، وهذا بلا شكٍّ تَثبيتٌ، إذَن يَكُونُ التثبيتُ هنا من ناحيتينِ؛ تثبيته على أَنَّهُ رسولٌ، وتثبيتٌ آخرُ لدفعِ الشُّبُهات الَّتِي تُورَدُ عليه، وهذا الأمرُ الأولُ ضَرَبْنَا له مثلًا بفترةِ الوحي، والأمر الثَّاني نَضْرِب له مثلًا بهَذِهِ الآيةِ:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، جاء الجواب:{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، وأيضًا قوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ} [الإسراء: ٩٠ - ٩١]، إلى آخره، وقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: ٥٠ - ٥١]، فهذا وغيره كثير يَكُون من جملة تثبيت قلبِ الرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ إذا كان الإنْسَان يُمَدُّ بما يدافع به خصمه، فإن ذلك من أقوى ما يَكُون من التثبيتِ.
وهنا بيَّن اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الحِكمة بأنه تثبيت فؤاد الرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وفي آيةٍ أُخرى قال عَزَّ وَجَلَّ:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[الإسراء: ١٠٦]، فَبَيَّن حِكمة أخرى وهي أن يقرأه النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على النَّاس على مُكث؛ ليَكُون أسهلَ لحفظه وأَوعى لفهمِه، فما هي الحِكْمَة في أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اختارَ في هَذَا الموضعِ أن يقول:{لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، وهناك قال:{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}؟