للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويُطلَق القرنُ على الزمنِ، واختلفوا في مِقدارِه؛ فمنهم مَن قال: إِنَّهُ مئة، وهذا هو المشهور، ومنهم من قال: مئة وعشرونَ، ومنهم من قال: ثمانونَ سنة، وهَذِهِ الأقوال الَّتِي تُقَدِّرُ بالزمنِ هي مقارِبةٌ للأقوالِ الَّتِي تقدِّر بالأُمَّة؛ لِأَنَّ الغالبَ أن مثل هَذَا الزمن يَفنى به الأوَّلون ويأتي بعدَهم قومٌ آخرونَ، ولهذا قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في آخِرِ حياتِه: "أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مئة سَنَةٍ مِنْهَا، لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ" (١)، فهذا مما يُشِيرُ إلى أن القرنَ مئة سنةٍ، ولكنَّ السياقَ هنا يدل عَلَى أَنَّ المرادَ بالقرون الأُمم؛ لِأَنَّ الإهلاك للقرونِ يَكُون لأهل الأزمان، فالآيةُ هنا سياقها يدلّ عَلَى أَنَّ المراد بالقرونِ الكثيرةِ الأممُ، وما أكْثَرَ القرونَ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين نوحٍ وأصحاب الرَّسِّ، وقد جاء في الحديث الَّذِي رواه أبو ذَرٍّ وهو حَسَنٌ، وصحَّحه الحاكِم (٢) أن عدد الرُّسُلِ ثلاثُ مئة وبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وأمَّا الأنبياء فكثيرون؛ مئة وأربعة وعشرون ألفًا، هَذَا عددٌ كبيرٌ، فإذا كان غالب الرُّسُل مُكَذَّبًا، فمعنى ذلك أن القرونَ الَّتِي أُهْلِكت كانتْ كثيرةً، والنَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رؤيا: رأى الأنبياء، فرأى النَّبيَّ ومعَه الرَّهْطَ، والنَّبيَّ ومعه الرجلُ والرجلانِ، والنَّبي وليس معَه أحدٌ (٣)، ممَّا يدلّ عَلَى أَنَّ غالبَ الأنبياءِ كُذِّبَ فيما سَبَقَ ولم يَتْبَعْه إلَّا القليل، وهذا نوحٌ كما هو معروف لبِث في قومِه ألفَ سنةٍ إلا خمسينَ عامًا، قال اللَّه تَعَالَى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: ٤٠]، هَذِهِ المدَّة العظيمة وهو يكابدهم ويناظرهم


(١) أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعا، رقم (٥٦٤)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تَأْتِي مئة سَنَةٍ، وَعَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ"، رقم (٢٥٣٧).
(٢) مستدرك الحاكم (٢/ ٦٥٢، رقم ٤١٦٦).
(٣) أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب من لم يرق، رقم (٥٧٥٢)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، رقم (٢٢٠).

<<  <   >  >>