قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} في إقامة الحجَّة عليهم، فلم نهلكْهم إلا بعد الإنذارِ]، وهذا من عَدْل اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ اللَّه قادِر على أن يُهلِكَ عبادَه بمجرَّد مَعْصِيَتِهم؛ إذ إِنَّهُ قد أخذَ عليهم العهدَ والميثاقَ الفِطريَّ أو الحسيّ، على الخلاف في ذلك، بأنه ربُّهم وأَنَّهُمْ عابدون له، ولكن مع ذلك ما يُهْلِكُ أحدًا إلا بعدَ إرسالِ الرسُل {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: ١٦٥]، فلم يَكِلِ اللَّهُ العبادَ إلى فِطَرِهم، ولا إلى العهدِ الَّذِي أخذه عليهم، وإنما بعث إليهم رُسُلًا مبشِّرين ومنذرين، بعد هَذَا البعث هل يبقَى لأحدٍ حُجَّة؟ لا يبقى، حتى المحتجُّون بالقَدَر لا يستطيعون أن يحتجُّوا به مع إقامة الحجَّة عليهم بالرُّسُلِ، ولهذا لو كان القَدَر حُجَّةً لم تنتفِ بإرسالِ الرُّسُلِ؛ إذ القدرُ قائمٌ مع وجودِ الرُّسُلِ، فلو كان القَدَر حُجَّةً للعاصينَ ما كان إرسالُ الرُّسُلِ حجَّةً على الخَلْقِ؛ لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يا ربَّنا القدر موجود حتى مع إرسالِ الرُّسُلِ، فَهُوَ لنا حُجَّة. ولكنَّ النَّاسَ قد أُنذروا وأُتوا بالآيات "مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ"(١)، فكلُّ رسولٍ أيضًا ما أتَى فقطْ ليقولَ للناسِ: أنا رسولٌ، افْعَلْ كذا، حتى لو جاء الإنْسَانُ وقال: أنا رسول، افْعَلْ كذا، ولم يأتِ بآياتٍ فللناس الحُجَّة في أن يردوا قولَه، يَقُولُونَ: هاتِ بيِّنةً أنك رسول، وإلَّا لا نقبلَ، لكِن مع ذلك ما من رسولٍ إلَّا أتى بآيةٍ يؤمِنُ على مثلِها البَشَر، ثم مع ذلك أُنْذِروا؛ فشعيب عَلَيْهِ السَّلَامُ كما أشرنا سابقًا قال لقومِه:{لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}[هود: ٨٩]، وهود عَلَيْهِ السَّلَامُ قال لقومِه:
(١) أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، رقم (٤٩٨١)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته، رقم (١٥٢).