للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قوله: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هذَا أَيْضًا إنكارٌ واستكبارٌ، يَعْنِي كيف نسجدُ لِمَا تَأْمُرنا، قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [بالفوقانيَّة والتحتانيَّة، والآمِر مُحَمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-].

قوله: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} (ما) هَذِه هل هي بمعنى (مَنْ) أو (ما) مصدريَّة، يَعْنِي هل المعنى: لمِن تأمُرنا بالسجودِ له، فتكون موصولةً، بمعنى (مَن)، أو أنها مصدريَّة؛ أي لِأَمْرِك؟ كلاهما ممكِن، والمُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ يقولُ: [ولا نَعْرِفه]، يشير إِلَى أن (ما) اسْم موصول، يَعْنِي للذي تأمرنا أن نسجدَ له، ونحن لا نعرِفه، فعلى مُقْتَضَى تفسيرِه تكون (ما) بمعنَى (مَن)، وحينئذٍ التعبيرُ بـ (ما) بَدَل (مَن) فِي غير الجمادِ أو فِي غير مَن لا يَعقِل -كما يَقُولُونَ- خِلاف الأَصْلِ؛ لِأَنَّ الأَصْلَ أنْ يُعَبَّر عن ذي العلمِ بـ (مَنْ)، لا بـ (ما)، ولا يُعَبَّر بـ (ما) إِلَّا لملاحظة شَيْء، مثل قوله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: ٣]، لم يَقُلْ: (مَنْ طابَ)، فما هو هذَا الشَيْء؟ نقول: في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} هو لا يريد امرأةً بعينِها حَتَّى يعبر عنها بـ (مَنْ)، إِنَّمَا يريد الجنسَ الَّذِي يُتَزَوَّج لِطِيبِه، فيَكُون فِي ذلك مراعيًا للصفةِ، لا للموصوفِ، ولهذا أتى بـ (ما) {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}، كَذَلِك أَيْضًا قوله: {لِمَا تَأْمُرُنَا}؛ إذا جَعَلْنا (ما) بمعنى (مَنْ) نقول: عَدَلُوا عن الموصوفِ إِلَى الإشارةِ إِلَى الصِّفةِ؛ لأَنَّهُمْ يُنكِرون هذَا الوصفَ الَّذِي هو الرَّحمنُ، فكأَنَّهُمْ قالوا: أنسجُدُ لأمرٍ مجهولٍ غير معلومٍ، وهو ما تأمرنا بالسجودِ له، أمَّا عَلَى أن تكون (ما) مصدريَّة فالأمرُ واضحٌ جدًّا، يَعنِي كأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنَسْجُدُ لِأَمرِكَ وأنتَ لستَ بشَيْءٍ عندنا؛ لأَنَّهُمْ قالوا: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: ٤١ - ٤٢]، فيَكُون هنا جَمَعُوا بَيْنَ الإنكارِ والاستكبارِ، الإنكار لصفةٍ من صفاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واسْمٍ من أسمائِه، ثم الإنكار لِمَا أُمِرُوا بالسجودِ له،

<<  <   >  >>