وأعجازا على كلاكل، والقوم الذين لا نشك فى أن الله-سبحانه تقدمت أسماؤه-قد هداهم لهذا العلم الكريم، وأراهم وجه الحكمة فى الترحيب له والتعظيم، وجعله ببركاتهم، وعلى أيدى طاعاتهم، خادما للكتاب المنزل، وكلام نبيه المرسل، وعونا على فهمهما، ومعرفة ما أمر به أو نهى عنه الثقلان منهما، إلا بعد أن يناهضه إتقانا، ويثابته عرفانا؛ ولا يخلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نزوة من نزوات تفكره».
***
[عبارته]
اشتهر ابن جنى ببلاغة العبارة وحسن تصريف الكلام، والإبانة عن المعانى بأحسن وجوه الأداء، وهو يسمو فى عبارته، ويبلغ بها الفصاحة، فى المسائل العلمية الجافة البعيدة عن الخيال ووجوه التطرية. وقد عرفت عنه هذا.
يقول الأيبوردى، فى أبى على أحمد بن محمد المرزوقى: «وهو يتفاصح فى تصانيفه كابن جنى». والمرزوقى أيضا ممن أخذ عن أبى على.
ولابن جنى فى عباراته وجوه فى استعمال بعض المفردات يدونها اللغويون، وينوهون بها كما يدونون ما صدر عن العرب؛ ثقة بطبيعته العربية، وسجيته اللغوية.
فهو يستعمل الأصلية فى معنى التأصل، ويقول فى ذلك صاحب اللسان «أصل»:
«واستعمل ابن جنى الأصلية موضع التأصل، فقال: الألف وإن كانت فى أكثر أحوالها بدلا أو زائدا، فإنها إذا كانت بدلا من أصل جرت فى الأصلية مجراه. وهذا لم تنطق به العرب، وإنما هو شئ استعملته الأوائل فى بعض كلامها».
وظاهر أنه يريد بالأوائل قدامى المؤلفين بعد عهد العرب، وأن أول هؤلاء فى الاستعمال ابن جنى، كما يبدو من صدر هذا الكلام.
ويقول فى الخصائص فى «باب فى امتناع العرب من الكلام بما يجوز فى القياس»: «فالعين فى الصحيح اللام إنما غاية أصليتها أن تقع متحركة».
على أن ابن جنى إذ يستعمل الأصلية فى معنى التأصل لم يرتكب بدعا، وإنما جرى فى هذا على انتهاج المصدر الصناعى، فالأصلية للشئ كونه أصلا، وهذا معنى التأصل.
ويقول المجد صاحب القاموس فى «بغية الرشاف من خطبة الكشاف» عند قول الزمخشرى:
أنشأ كتابا ساطعا بيانه، قاطعا برهانه: «أنشأ لا يستعمل إلا فى الجواهر، وقد تقدم معناه يقال: أنشأ دارا: أى بناها، وأنشأ الله السحاب: رفعه.
وقال ابن جنى فى تأدية الأمثال على ما وضعت عليه: يؤدى ذلك فى كل موضع على صورته التى أنشئ فى مبدئه عليها. فاستعمل الإنشاء فى العرض الذى هو الكلام».