للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب


[ () ] بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه جزيرة العرب كلها، وأمن محمد كل عادية عليها. والحق انه لم يكد يستقر بعد ان عاد من هذه الغزوة الى المدينة حتى بدأ كل من اقام على شركه من اهل شبه الجزيرة يفكر. ولئن كان المسلمون، الذين صحبوا محمدا في مسيره الى الشام كابدوا من صنوف المشاق واحتملوا من القيظ والظمأ أهوالا، قد عادوا وفي نفوسهم شيء من السخط ان لم يقاتلوا ولم يغنموا بسبب انسحاب الروم الى داخل الشام ليتحصنوا بمعاقلهم فيها- لقد ترك هذا الانسحاب في نفوس قبائل العرب المحتفظة بكيانها وبدينها أثرا عمقا، وترك في نفوس قبائل الجنوب باليمن وحضرموت وعمان أثرا أشد عمقا. أليس الروم هؤلاء هم الذين غلبوا الفرس واستردوا منهم الصليب وجاءوا به الى بيت المقدس في حفل عظيم، وفارس كانت صاحبة السلطان على اليمن وعلى البلاد المجاورة لها أزمانا طويلة! فإذا كان المسلمون على مقربة من اليمن ومن غيرها من البلاد العربية جمعاء، فما أجدر هذه البلاد بأن تتضام كلها في تلك الوحدة التي تستظل بعلم محمد، علم الإسلام، لتكون بمنجاة من تحكم الروم والفرس جميعا! وماذا يضر أمراء القبائل والبلاد ان يفعلوا وهم يرون محمدا يثبت من جاءه معلنا الإسلام والطاعة في إمارته وعلى قبيلته؟! فلتكن السنة العاشرة للهجرة إذا سنة الوفود، وليدخل الناس في دين الله أفواجا، وليكن لغزوة تبوك ولانسحاب الروم امام المسلمين من الأثر أكثر مما كان لفتح مكة والانتصار في حنين وحصار الطائف.
وقد أفرد الحافظ العلامة الشيخ برهان الدين البقاعي رحمه الله تعالى الكلام على تفسير سورة النصر إعلاما بتمام الدين اللازم عن مدلول اسمها، اللازم عن موت النبي صلّى الله عليه وسلم اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان، اللازم عنه أنه صلّى الله عليه وسلم خلاصة الوجود وأعظم عبد للمولى الودود [وعلى ذلك دل ايضا اسمها على التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجة الوداع.
« (بسم الله) الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم، (الرحمن) الذي أرسلك رحمة للعالمين، فعمهم بعد نعمة الإيجاد بأن بين لهم إقامة معاشهم ومعادهم بك طريق النجاة وغاية البيان بما أنزل عليك من معجز القرآن الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله. (الرحيم) الذي خص من أراده بالإقبال [به] الى حزبه وجعله من اهل قربه [بلزوم الصراط المستقيم] لما دلت التي قبلها على أن الكفار قد صاروا الى حال لا عبرة لهم فيه ولا التفات إليهم، ولا خوف بوجه منهم ما دام الحال على المتاركة كأنه قيل فهل يحصل نصر عليهم وظفر بهم [بالمعاركة] ، فأجاب بهذه الصورة بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين.
«ولكنه لما لم يكن ذلك بالفعل إلا عام حجة الوداع يعني بعد فتح مكة بسنتين كان كأنه لم يستقر الفتح إلا حينئذ، فلم ينزل سبحانه هذه السورة إلا في ذلك الوقت وقبل منصرفه من غزوة حنين قبل ذلك. فقال تعالى: (جاء) [ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعينة لها، يسوقها إليها سائق القدرة فتقرب منها شيئا فشيئا كانت كأنها آتية إليها فلذلك حصل التجوز بالمجيء عن