للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب


[ () ] إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.
وهذا السياق صريح في أن اللّات والعزّى أسماء سمّاها المشركون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان. فكيف يحتمل ان يجري السياق بما يأتي: «أفرأيتم اللّات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. تلك الغرانيق العلا. إن شفاعتهنّ ترتجى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان» إن في هذا السياق من الفساد والاضطراب والتناقض، ومن مدح اللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى وذمها في أربع آيات متعاقبة، ما لا يسلّم به عقل ولا يقول به إنسان، ولا تبقى معه شبهة في أن حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغاياتهم، وصدّقه من يسيغون كل غريب ومن تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقي.
وحجة اخرى ساقها المغفور له الأستاذ محمد عبده حين كتب يفندّ قصة الغرانيق. تلك أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق لم يرد في نظمهم ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم، وإنما ورد الغرنوق والغرنيق على أنه اسم لطائر مائي أسود او أبيض، والشابّ الأبيض الجميل. ولا شيء من ذلك يلائم معنى الآلهة، أو وصفها عند العرب.
بقيت حجة قاطعة، نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد نفسه، فهو منذ طفولته وصباه وشبابه لم يجرب عليه الكذب قط حتى سمى الأمين ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وكان صدقه أمرا مسلما به عند الناس جميعا، حتى لقد سأل قريشا يوما بعد بعثه: «أرأيتم لو أخبرتكم ان خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقوني؟» فكان جوابهم: «نعم! أنت عندنا غير متّهم وما جرّبنا عليك كذبا قط» . فالرجل الذي عرف بالصدق في صلاته بالناس منذ نعومة أظفاره إلى كهولته كيف يصدّق إنسان أنه يقول على ربّه ما لم يقل، ويخشى الناس والله أحق ان يخشاه! هذا امر مستحيل، يدرك استحالته الذين درسوا هذه النفوس القويّة الممتازة التي تعرف الصلابة في الحق ولا تداجى فيه لأي اعتبار. وكيف ترى يقول محمد: لو وضعت قريش الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر او يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لم يوح إليه، ويقوله لينقض به أساس الدّين الذي بعثه الله به هدّى وبشرى للعالمين! ومتى رجع إلى قريش يمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنوات أو نحوها من بعثه. وبعد ان احتمل هو وأصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل، وبعد ان أعزّ الله الإسلام بحمزة وعمر، وبعد ان بدأ المسلمون يصبحون قوّة بمكة، ويمتدّ خبرهم إلى بلاد العرب كلها وإلى الحبشة وإلى مختلف نواحي العالم. إن القول بذلك حديث خرافة وأكذوبة ممجوجة. ولقد شعر الذين اخترعوها بسهولة افتضاحها، فأرادوا سترها بقولهم: إن محمدا ما كاد يسمع كلام قريش إذ جعل لآلهتهم نصيبا في الشفاعة حتى كبر ذلك عليه، وحتى رجع إلى الله تائبا أوّل ما أمسى