للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب


[ () ] بين الفريقين، ورجع الذين عادوا من الحبشة، وذهب معهم من استطاع اللحاق بهم. وقد وجدوا هذه المزة عنتا من قريش إذ حاولت ان تمنعهم من الهجرة.
ليس الصلح الذي يشير إليه المستشرق موير، هو إذا الذي دعا المسلمين إلى العودة من بلاد الحبشة، إنما دعاهم هذه الهدنة التي حدثت على إثر إسلام عمر وحماسته في تأييد دين الله.
فتأييد حديث الغرانيق إذا بحجة الصلح تأييد غير ناهض.
أمّا احتجاج المحتجين من كتاب السيرة والمفسرين بالآيات: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ووَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ... فهو احتجاج أشدّ تهافتا من حجة السير موير ويكفي أن نذكر من الآيات الأولى قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا لنرى أنه إن كان الشيطان قد ألقى في أمنية الرسول حتى لقد كان يركن إليهم شيئا قليلا فقد ثبّته الله فلم يفعل، ولو أنه فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات. وإذا فالاحتجاج بهذه الآيات احتجاج مقلوب. فقصة الغرانيق تجري بأن محمدا ركن الى قريش بالفعل. وان قريشا فتنته بالفعل فقال على الله ما لم يقل. والآيات هنا تفيد أن الله ثبّته فلم يفعل. فإذا ذكرت كذلك أن كتب التفسير واسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعا غير مسألة الغرانيق، رأيت ان الاحتجاج بها في مسألة تتنافى في عصمة الرسل في تبليغ رسالاتهم، وتتنافى مع تاريخ محمد كله، احتجاج متهافت، بل احتجاج سقيم.
أما الآيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ... فلا صلة لها بحديث الغرانيق البتة، فضلا عن ذكرها ان الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، ويحكم الله آياته والله عليم حكيم.
وندع هذا إلى تمحيص القصة التمحيص العلمي الذي يثبت عدم صحتها. وأول ما يدل على ذلك تعدّد الروايات فيها، فقد رويت، كما سبق القول. على انها: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ورواها بعضهم: «الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى» . وروى آخرون: «إن شفاعتهم ترتجى» دون ذكر الغرانقة او الغرانيق. وفي رواية رابعة: «وإنها لهي الغرانيق العلا» وفي رواية خامسة: «وإنهن لهن الغرانيق العلا. وإن شفاعتهم لهي التي ترتجى» وقد وردت في بعض كتب الحديث روايات اخرى غير هذه الروايات الخمس. وهذا التعدّد في الروايات يدلّ على أن الحديث موضوع، وانه من وضع الزنادقة. كما قال ابن إسحاق، وان الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ محمد رسالات ربه.
ودليل آخر أقوى واقطع، ذلك سياق سورة النجم وعدم احتماله لمسألة الغرانيق. فالسياق يجري بقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.