[معنى قوله تعالى: (تسقى من عين آنية)]
وما حال هؤلاء الذين يسقون النار: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:٥] ؟ سبحان الله! أقول للأحبة: ونجدها سنة، كلما اشتد علينا الحر نحتاج إلى الماء، في أيام الحر الشديد تجد أن جسد الإنسان يفرز عرقاً فيحتاج إلى كثرة الماء، وهؤلاء يصلون في نار حامية تحيط بهم من كل مكان، يستغيثون فيغاثون: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:٢٩] يشربه فيسقط لحم وجهه على الأرض من شدة حره وخبث طعمه.
ولما ذكر الله الاحتراق في النار فإن الذهن يتصور مباشرة أن هذه الأجساد تحتاج إلى إطفاء شيء من حرارتها بالشراب، فجعل الله لهم هذا الشراب -نعوذ بالله أن نشربه- وهو من عين حامية أي: شديد حرها.
وهنا نتذكر قصة رجل آخر يدخل الجنة، والحديث قصته في الصحيح وأنا أرويها لكم بالمعنى، وهو حديث عظيم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم حال آخر رجل يدخل الجنة، ونحن نعلم يقيناً أن الشمس تدنو من الخلائق، وأنهم يلجمهم العرق والناس على حسب ذنوبهم ومعاصيهم، فمنهم من يصل العرق إلى ثدييه ومنهم إلى حقويه ومنهم إلى ركبتيه ويحتاج الناس إلى ماء، فمن الناس من يسقون من حوض محمد صلى الله عليه وسلم -نسأل الله أن نكون ممن يرده- فإن من شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبداً، وآخر أهل الجنة دخولاً يمشي على الصراط، وليتصور المسلم هذا الصراط الذي نُصب على النار، وهذه النار كما سيأتي شيء من صفاتها، تأتي يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع على كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ} [الملك:٨] تجر جراً، وسيمشي كل واحدٍ منا عليها كما قال الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:٧١] هذا الصراط دحض مزلة، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعر، ويمشي الناس عليه على مقدار أعمالهم في الدنيا، ويحتاجون إلى نور؛ لأن النار سوداء مظلمة، والإنسان في حاجة إلى نور، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ومن الناس من يكون نوره كالقمر، ومنهم من يكون نوره كالكوكب الدري وهكذا.
أما آخر أهل الجنة دخولاً فإنه يمشي ومعه نور في إبهام قدمه، وهذا لا يغني، فهو يمشي قليلاً ويسقط ويتعلق بيده، ثم يصعد على الصراط فيمشي قليلاً ثم يسقط فيتعلق مرة أخرى، والنار تسفعه يمنة ويسرة، ويمشي على هذا الصراط، وما يدري ما حاله، ويرى حوله الكلاليب تتخطف العصاة وأهل الكفر والبدع يمنة ويسرة، حتى إذا نجاه الله من النار التفت إليها وقال: الحمد لله الذي أنجاني منك.
ويصبح جسده كالفحم، فالجسد مع شدة الحرارة يحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: الظل البارد؛ لأنه يريد أن يطفئ حرارة جلده.
الأمر الثاني: يحتاج إلى الماء البارد ليطفئ حرارة جوفه، فيخلق الله له شجرة طيبة وهي بعيدة عنه ويجري من تحتها ماء بارد فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة؟ فيقول الله: ألم أنجك من النار؟ -يعني: أليس أمراً عظيماً أن تنجو من النار- قال: بلى، ولكنه يعلم بأن رحمة ربه واسعة وسعت كل شيء، فأين الذين يريدون أن يتعرضوا لنفحات الله تعالى في هذا اليوم؟!! ويأخذ الله عليه العهد: ألا يطلب غير ذلك، فينقله الله إلى هذه الشجرة، يستظل ويشرب، ثم يخلق الله شجرة أحسن منها وأطيب ماءً فيلتفت إليها ويسأل، فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة، فيقول الله: ألم آخذ عليك العهود والمواثيق، ما أغدرك يا بن آدم! ولكن ظنه بربه أنه لن يخيبه، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي} [البقرة:١٨٦] فينقله الله إلى تلك.
ثم يخلق الله شجرةً ثالثة وهي عند باب الجنة، فإذا قرب منها دعا ربه، ثم ينقل إليها فيرى أهل الجنة ويرى ما فيها من نعيم، فيقول: يا رب! إني أريد أن أدخل الجنة، أدخلني الجنة، فيقول: ما أغدرك يا بن آدم! وما أكثر ما تعاهد وتنقض، فيقول الله له: ادخل الجنة، أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، وفي بعض الروايات: أن الله تعالى قال: ادخل الجنة، فلما وجدها مليئة بالبشر قال: يا رب قد أخذ الناس منازلهم، فيضحك الجبار سبحانه وتعالى.
وقال له في بعض الروايات: أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، قال: أيا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها.
أقلَّ الناس دخولاً للجنة له عشرة أمثال الدنيا.
هذا فضل أهل الجنة وما أعد الله لهم.
وبيت القصيد: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:٥] شتان بين هذين الماءين؛ أهل الإيمان يسقون أولاً من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، ويسقون من نعيم أهل الجنة وأنهارها وما فيها من الخير، وأهل النار يسقون من هذا الماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:٢٩] وشتان بين هذين الماءين.