بِالْعُيُونِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فَإِطْلَاقُ التَّخْيِيلِ فِي الْآيَةِ عَلَى سِحْرِهِمْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} ؛ لِأَنَّ إِيقَاعَ السِّحْرِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْيُنَهُمْ تَخَيَّلَتْ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ الْوَاقِعَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ: الْأَعْمَالُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ الْهَنْدَسِيَّةِ، كَفَارِسٍ عَلَى فَرَسٍ فِي يَدِهِ بُوقٌ، كُلَّمَا مَضَتْ سَاعَةٌ مِنَ النَّهَارِ ضَرَبَ بِالْبُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ. وَمِنْهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُصَوِّرُهَا الرُّومُ وَالْهِنْدُ حَتَّى لَا يُفَرِّقَ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهَا ضَاحِكَةً وَبَاكِيَةً، حَتَّى يُفَرِّقَ فِيهَا بَيْنَ ضَحِكِ السُّرُورِ، وَبَيْنَ ضَحِكِ الْخَجَلِ، وَضَحِكِ الشَّامِتِ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ مِنْ لَطِيفِ أُمُورِ الْمَخَايِلِ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَكَانَ سِحْرُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَرْكِيبُ صُنْدُوقِ السَّاعَاتِ. وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْبَابِ عِلْمُ جَرِّ الْأَثْقَالِ، وَهُوَ أَنْ يَجُرَّ ثَقِيلًا عَظِيمًا بِآلَةٍ خَفِيفَةٍ سَهْلَةٍ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَدَّ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا مَعْلُومَةً نَفِيسَةً، مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا قَدِرَ عَلَيْهَا، إِلَّا أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا لَمَّا كَانَ عسير أعد أَهْلُ الظَّاهِرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ السِّحْرِ لِخَفَاءِ مَأْخَذِهِ اهـ.
وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّازِيَّ يَرَى أَنَّ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ السَّحَرَةَ جَعَلُوا الزِّئْبَقَ عَلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ فَحَرَّكَتْهُ حَرَارَةُ الشَّمْسِ فَتَحَرَّكَتِ الْحِبَالُ والعصي فظنوا أَنَّهَا حَرَكَة طبيعية حَقِيقَة. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَتَوَارَدَ نَوْعَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي هَذَا وَفِي هَذَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ الرَّازِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute