للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الْغَيْبِ: أَنَّ الْعِرَافَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ، وَالْكِهَانَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ اهـ مِنْهُ.

وَعُلُومُ الشَّرِّ كَثِيرَةٌ، وَقَصَدْنَا بِذِكْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا التَّنْبِيهَ عَلَى خِسَّتِهَا وَقُبْحِهَا شَرْعًا، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ بَوَاحٌ، وَمِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِهَا التَّحْرِيمُ الشَّدِيدُ.

وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ عَلَى أَنَّ الْعِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ السِّحْرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ فِي «الْأَنْعَامِ» وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ (١) . وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» (٢) .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّحْرِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ هُوَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْهُ مَا هُوَ تَخْيِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. (٣)

وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ أَقْسَامِ السِّحْرِ الْمُتَقَدّمَة فِي كَلَام الرَّازِيّ وَغَيره.


(١) - أخرجه أَبُو دَاوُد (٢/٤٠٨) (٣٩٠٥) ، وَابْن مَاجَه (٢/١٢٢٨) (٣٧٢٦) ، وَأحمد (١/٢٢٧) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَصحح إِسْنَاده الأرناؤوط.
(٢) - أخرجه النَّسَائِيّ (٧/١١٢) (٤٠٧٩) ، وَضَعفه الشَّيْخ الألباني - رَحمَه الله -.
(٣) - قَالَ الْعَلامَة الشنقيطي - رَحمَه الله - (٤/٤٧٤ - ٤٧٥) (طه/٦٦) : [وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «طه» هَذِهِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الْأَعْرَافِ» وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ خَيَّلُوا لِأَعْيُنِ النَّاظِرِينَ أَمْرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَبِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ احْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّ السِّحْرَ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَمْرٌ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا مُطْلَقَ تَخْيِيلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ لَهُ حَقِيقَةٌ تَكُونُ سَبَبًا للتفريق بَين الرجل وَامْرَأَته وَقد عبر الله عَنهُ بِمَا الموصولة وَهِي تدل على أَنه شَيْء لَهُ وجود حَقِيقِيّ. وَمِمَّا يدل على ذَلِك أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ} يَعْنِي السواحر اللَّاتِي يعقدن فِي سحرهن وينفثن فِي عقدهن. فلولا أَن السحر حَقِيقَة لم يَأْمر الله بالاستعاذة مِنْهُ. وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله أَن السحر أَنْوَاع: مِنْهَا مَا هُوَ أَمر لَهُ حَقِيقَة، وَمِنْهَا مَا هُوَ تخييل لَا حَقِيقَة لَهُ. وَبِذَلِك يَتَّضِح عدم التَّعَارُض بَين الْآيَات الدَّالَّة على أَن لَهُ حَقِيقَة، والآيات الدَّالَّة على أَنه خيال.

فَإِن قيل: قَوْله فِي «طه» : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ} ، وَقَوله فِي «الْأَعْرَاف» : {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ} الدالان على أَن سحر سحرة فِرْعَوْن خيال لَا حَقِيقَة لَهُ، يعارضهما قَوْله فِي «الْأَعْرَاف» : {وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} لِأَن وصف سحرهم بالعظم يدل على أَنه غير خيال. فَالَّذِي يظْهر فِي الْجَواب وَالله أعلم أَنهم أخذُوا كثيرا من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين النَّاس أَن الحبال والعصي تسْعَى وَهِي كَثِيرَة. فَظن الناظرون أَن الأَرْض ملئت حيات تسْعَى، لِكَثْرَة مَا ألقوا من الحبال والعصي فخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذَلِك الْعدَد الْكثير وصف سحرهم بالعظم. وَهَذَا ظَاهر لَا إِشْكَال فِيهِ. وَقد قَالَ غير وَاحِد: إِنَّهُم جعلُوا الزئبق على الحبال والعصي، فَلَمَّا أَصَابَهَا حر الشَّمْس تحرّك الزئبق فحرك الحبال والعصي، فخيل للناظرين أَنَّهَا تسْعَى.] .

<<  <  ج: ص:  >  >>