نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} . وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَنَسِىَ} أَيْ تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ فِي الْآيَةِ: النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَقْسَمَ لَهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَهُ نَاصِحٌ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْهَا غَرَّهُ وَخَدَعَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُ الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ. كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ اهـ (١) . وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ ... وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَفِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهِ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} .
وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالنِّسْيَانِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كتابي (دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب عَن آيَات الْكِتَابِ) الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَقَوْلِهِ هُنَا {فَنَسِىَ} مَعَ قَوْلِهِ {وَعَصَى} فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ وَالْعِصْيَانُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالنِّسْيَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسلم من
(١) - أخرجه ابْن أبي حَاتِم، كَمَا ذكر عَنهُ ابْن كثير فِي تَفْسِيره (٣/٢٢٥) ، سَاق إِسْنَاده، وَأخرجه الطَّبَرِيّ (٨/٤٦٥) من طَرِيق الْأَعْمَش عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ، والْحَدِيث رِجَاله ثِقَات إِلَّا أَنه مَعْلُول بعنعنة الْأَعْمَش؛ لِأَنَّهُ مدلساً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute