للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ كَانَ شِكَايَةً وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا شِكَايَةً، وَإِنَّمَا كَانَ دُعَاءً. بَيَانُهُ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} وَالْإِجَابَةُ تَتَعَقَّبُ الدُّعَاءَ لَا الِاشْتِكَاءَ. فَاسْتَحْسَنُوهُ وَارْتَضَوْهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: عَرَّفَهُ فَاقَةَ السُّؤَالِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ بِكَرَمِ النَّوَالِ انْتَهَى مِنْهُ.

وَدُعَاءُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنَدَ مَسُّ الضُّرِّ أَيُّوبَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَذَكَرَهُ فِي سُورَة «ص» وَأسْندَ ذَلِك الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: {أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وَالنُّصْبُ عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ مَعْنَاهُ:

التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ، وَالْعَذَابُ: الْأَلَمُ. وَفِي نِسْبَةِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ «ص» هَذِهِ إِشْكَالٌ قَوِيٌّ مَعْرُوفٌ. لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى مِثْلِ أَيُّوبَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ. كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُقَرِّرًا لَهُ: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} .

وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَجْوِبَةٌ. مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ:

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى أنبيائه ليقضي إِن إِتْعَابِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَطَرَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ صَالِحًا إِلَّا وَقَدْ نَكَبَهُ وَأَهْلَكَهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لَهُ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ فَحَسْبُ؟

قُلْتُ: لَمَّا كَانَتْ وَسْوَسَتُهُ إِلَيْهِ، وَطَاعَتُهُ لَهُ فِيمَا وَسْوَسَ سَبَبًا فِيمَا مَسَّهُ اللَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>