ذَلِكَ، فَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ أُثِيبَ مُتَعَاطِيهِ عَلَى قَصْدِهِ وَفِعْلِهِ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَعَمِلَهَا، فَكُتِبَ لَهُ بِذَلِكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِسَبَبِ مَا حَصَّلَهُ مِنْ مَصَالِحِ تِلْكَ الْقُرُبَاتِ. وَإِنْ اخْتَلَفَ ظَنُّهُ فِي ذَلِكَ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ دُونَ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ عِقَابٌ إذْ لَا يَتَقَرَّبُ إلَى الرَّبِّ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك» : أَيْ وَالشَّرُّ لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا وَسِيلَةً إلَيْك؛ إذْ لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْخُيُورِ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ، بِخِلَافِ ظَلَمَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِالشُّرُورِ، كَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وَظُلْمِهِمْ الْعِبَادَ، وَإِفْشَاءِ الْفَسَادِ وَإِظْهَارِ الْعِنَادِ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ إلَّا بِالْحَقِّ وَالرَّشَادِ، فَإِنْ قِيلَ: الْجِهَادُ إفْسَادٌ، وَتَفْوِيتُ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ؟ قُلْنَا: لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إفْسَادًا، وَإِنَّمَا يُتَقَرَّبُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الصَّلَاحِ، كَمَا أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ وَسِيلَةٌ إلَى حِفْظِ الْأَرْوَاحِ، وَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إفْسَادًا لِلْيَدِ.
وَكَذَلِكَ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَشُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَّةِ الْبَشِعَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَحَمَّلُهُ النَّاسُ مِنْ الْمَشَاقِّ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الْمَصَالِحِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ أَنْ يَقْضِيَ الْمُكَلَّفُ دَيْنَهُ بِمَالٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِلْكُهُ، أَوْ يُنْفِقُهُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ زَوْجِهِ وَأَقَارِبِهِ وَرَقِيقِهِ وَدَوَابِّهِ، وَذَلِكَ الْمَالُ فِي الْبَاطِنِ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، فَيُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى إنْفَاقِهِ، لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا يُثَابُ عَلَى الْمَفَاسِدِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ إذَا اعْتَكَفَ الْمُكَلَّفُ فِي مَكَانِ يَظُنُّهُ مَسْجِدًا، فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فِي الْبَاطِنِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ وَاعْتِكَافِهِ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَعَمِلَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا فِي الْبَاطِنِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ اعْتِكَافِهِ، لِأَنَّ اعْتِكَافَهُ إفْسَادٌ لِمَنَافِعَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَتَلْزَمُهُ أُجْرَتُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute