لَقَطَعْنَا بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ فِيهِمَا؛ لِتَحَقُّقِ الْمَفْسَدَةِ فِي حَقِّهِ،
وَإِنَّمَا عُمِلَ بِالظُّنُونِ فِي مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ
؛ لِأَنَّ كَذِبَ الظُّنُونِ نَادِرٌ وَصِدْقَهَا غَالِبٌ؛ فَلَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَا خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ نَادِرِ كَذِبِهَا لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ غَالِبَةٌ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ قَلِيلَةٍ نَادِرَةٍ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ حِكْمَةِ الْإِلَهِ الَّذِي شَرَّعَ الشَّرَائِعَ لِأَجْلِهَا.
وَلَقَدْ هَدَى اللَّهُ أُولِي الْأَلْبَابِ إلَى مِثْلِ هَذَا قَبْلَ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ تَصَرُّفِهِمْ فِي مَتَاجِرِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ، وَإِقَامَتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ وَسَائِرِ تَقَلُّبَاتِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَغْلَبِ الْمَصَالِحِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْدَرِ الْمَفَاسِدِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ مَعَ تَجْوِيزِهِ لِتَلَفِهِ وَتَلَفِ مَالِهِ فِي السَّفَرِ يَبْتَنِي سَفَرُهُ عَلَى السَّلَامَةِ الْغَالِبَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَطْبُ نَفْسِهِ وَمَالِهِ نَادِرًا لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَلَيْهِ وَنُدْرَةِ الْهَلَاكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَلَوْ قَعَدَ الْمَرْءُ فِي بَيْتِهِ مُهْمِلًا لِمَصَالِحِ دِينِهِ وَدِينَاهُ خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَكَدَمَهُ بَعِيرٌ أَوْ رَفَسَهُ بَغْلٌ أَوْ نَدَسَهُ حِمَارٌ أَوْ قَتَلَهُ جَبَّارٌ مَعَ نُدْرَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَأَلْحَقَهُ الْعُقَلَاءُ بِالْحَمْقَى وَالنَّوْكَى وَالْمَجَانِينِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَبَّارٌ يَطْلُبُهُ أَوْ عَدُوٌّ يُرْهِبُهُ أَوْ كَلْبٌ عَقُورٌ يَقْصِدُهُ لِيَعَضَّهُ فَخَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ لَعَدَّهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ الْحَمْقَى وَالنَّوْكَى وَلَلَامَتْهُ الشَّرَائِعُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَحَرِيمِهِ وَأَطْفَالِهِ، وَإِحْرَازِ دِينِهِ لَعُدَّ جُبْنُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ لِمَا فَوَّتَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ التَّغْرِيرُ بِالنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ قَبِيحًا مِنْ غَيْرِ مَصَالِحَ يَحُوزُهَا وَمَفَاسِدَ يُجَوِّزُهَا، لَعَدَّ الْعُقَلَاءُ ذَلِكَ قَبِيحًا مِنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُعْظَمِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِيُحَصِّلُوهَا، وَعَلَى مَعْرِفَةِ مُعْظَمِ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِيَتْرُكُوهَا، وَلَوْ اسْتَقْرَى ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ عَمَّا رَكَّزَهُ اللَّهُ فِي الطِّبَاعِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْيَسِيرُ الْقَلِيلُ، فَمُعْظَمُ مَا تَحُثُّ عَلَيْهِ الطَّبَائِعُ قَدْ حَثَّتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ وَمَا اتَّفَقَ عَلَى الصَّوَابِ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولُوا مَا وَجَبَ بِيَقِينٍ فَلَا يُبْرَأُ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute