للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالِاشْتِهَاءُ كُلُّهُ مَفَاسِدُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْآلَامِ، فَلَا تَحْصُلُ لَذَّةُ شَهْوَةٍ إلَّا بِتَأَلُّمِ الطَّبْعِ بِتِلْكَ الشَّهْوَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُؤَدِّيَةً إلَى مَفْسَدَةٍ عَاجِلَةٍ أَوْ آجِلَةٍ يَعْقُبُهَا مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعِظَامِ، وَرُبَّ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلًا وَعَذَابًا وَبِيلًا. فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ الشَّهْوَةُ أَلَمًا وَمَرَارَةً فَالْجَنَّةُ إذَنْ دَارُ الْآلَامِ وَالْمَرَارَاتِ لِأَنَّ فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ؟ قُلْت أَلَمُ الشَّهْوَةِ مُخْتَصٌّ بِدَارِ الْمِحْنَةِ.

وَأَمَّا دَارُ الْكَرَامَةِ فَإِنَّ اللَّذَّةَ تَحْصُلُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ يَتَقَدَّمُهَا أَوْ يَقْتَرِنُ بِهَا، لِأَنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ فِي ذَلِكَ عَرَضَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ، وَتِلْكَ الدَّارُ قَدْ خُرِقَتْ فِيهَا الْعَادَةُ كَمَا خُرِقَتْ فِي الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالتَّعَادِي وَالتَّحَاسُدِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ.

وَكَذَلِكَ تُخْرَقُ الْعَادَةُ فِي وُجْدَانِ لَذَّتِهَا مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ سَابِقٍ أَوْ مُقَارِنٍ؛ فَيَجِدُ أَهْلُهَا لَذَّةَ الشَّرَابِ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ وَلَا ظَمَأٍ، وَلَذَّةَ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ وَلَا سَغَبٍ، وَكَذَلِكَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي الْعُقُوبَاتِ؛ فَإِنَّ أَقَلَّ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ لَا تَبْقَى مَعَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَيَاةٌ.

وَأَمَّا فِي تِلْكَ الدَّارِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَتَأْتِيهِ أَسْبَابُ الْمَوْتِ مِنْ كُلِّ مَكَان وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ.

وَأَمَّا مَصَالِحُ الْآخِرَةِ وَمَفَاسِدُهَا فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالنَّقْلِ، وَمَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدُهُمَا فِي رُتَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ فَمِنْهَا؛ مَا هُوَ فِي أَعْلَاهَا، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي أَدْنَاهَا، وَمِنْهَا مَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ. فَكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَفِيهِ مَصْلَحَةُ الدَّارَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا، وَكُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَفِيهِ مَفْسَدَةٌ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا، فَمَا كَانَ مِنْ الِاكْتِسَابِ مُحَصَّلًا لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُحَصَّلًا لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ فَهُوَ أَرْذَلُ الْأَعْمَالِ. فَلَا سَعَادَةَ أَصْلَحَ مِنْ الْعِرْفَانِ وَالْإِيمَانِ وَطَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَلَا شَقَاوَةَ أَقْبَحَ مِنْ الْجَهْلِ بِالدَّيَّانِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ. وَيَتَفَاوَتُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ بِتَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَغْلَبِ، وَيَتَفَاوَتُ عِقَابُهَا بِتَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ فِي الْأَغْلَبِ، وَمُعْظَمُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِاكْتِسَابِ الْمَصَالِحِ وَأَسْبَابِهَا، وَالزَّجْرُ عَنْ اكْتِسَابِ الْمَفَاسِدِ وَأَسْبَابِهَا، فَلَا نِسْبَةَ بِمَصَالِح الدُّنْيَا وَمَفَاسِدِهَا إلَى مَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَمَفَاسِدِهَا، لِأَنَّ مَصَالِحَ الْآخِرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>