بذلك عن طلب العلم، وظلَّ يشتغل ويترقَّى في رتَبِ الجيش، وكان يُرتقبُ منه أن يغدُوَ قائدًا عسكريًّا حازمًا مثل آبائِه وأجداده، لكنَّ حادثة - سيأتي ذكرُها - غيَّرت ما كان يُرتقب منه، فترك الجيشَ، ولازمَ العلماء، وواظبَ في نهلِه من عذبِ مَوردِ أكابرِ الفضلاء، حتى صار من أكابر المدرسين، ثم نال أعلى المراتب والدرجات، كما سيأتي تفصيله بإذن رب العباد.
يحكي ابن كمالٍ عن نفسِه فيقول: إنَّه كان مع السلطانِ بايزيد خان في سفر، وكان الوزيرُ وقتئذٍ إبراهيمَ باشا بن خليل باشا، وكان وزيرًا عظيمَ الشأن، وكان في ذلك الزمانِ أميرٌ يُقال له: أحمد بك بنُ أَوْرَنُوس، وكان عظيمَ الشأن جدًّا، لا يتصدَّرُ عليه أحدٌ من الأمراء.
قال العلامة رحمه اللهُ تعالى: وكنتُ واقفًا على قدميَّ قدَّام الوزيرِ المزبور، والأميرُ المذكورُ عندَه جالسٌ، إذ جاء رجل من العلماء، رثُّ الهيئة، دنيءُ اللِّباس، فجلس فوق الأمير المذكورِ (أي: متقدمًا عليه في المجلس) ولم يمنعْه أحدٌ عن ذلك، فتحيَّرتُ في هذا، فقلتُ لبعض رفقائي: مَن هذا الذي جلسَ فوقَ هذا الأميرِ؟! فقال: هو رجلٌ عالم مُدرِّسٌ بمدرسةِ فليبه يقال له: المولى لُطفي، قلتُ: كم وظيفتُه؟ قال: ثلاثونَ درهمًا، قلتُ: فكيف يتصدَّرُ هذا الأميرَ ومنصبُه هذا المقدارُ؟! قال رفيقِي: إنَّ العُلماءَ معظَّمونَ لعلمِهم، ولو تأخَّرَ لم يرضَ بذلك الأميرُ ولا الوزير.
قال: فتفكَّرتُ في نفسي فقلتُ: إنِّي لا أبلغُ رتبةَ الأمير المذكور في الإمارة،