للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ليتكلَّفوا الفقاهة، ويتجشَّموا مشاقَّ تحصيلها، وليجعلوا غرضهم في ذلك ونهاية سعيهم إنذارَ قومهم وإرشادهم إرادة أن يحذروا الله تعالى في اجتناب معاصيه وامتثال أوامره.

وتخصيص الإنذار بالذِّكر، وجعلُه وحده غرضَ التَّفقُّه وإن كان العمل به أقدمَ وأهمَّ؛ لأنَّه أشرف وأعلى؛ لأنَّ التَّفقُّه (١) لا يكون تفقُّهًا إلَّا عند العمل به، فمَن لم يعمل بما عَلِم فليس بفقيه، ولا شكَّ أنَّ التكميل بعد الكمال، فكان العمل داخلًا في التَّفقُّه، وبعد الكمال بالعلم والعمل لا يكون الغرض منه إلَّا التَّكميل.

وفيه دليل على أن التَّفقُّه في الدِّين والتَّذكير من فروض الكفاية، وأن خبر الآحاد حجَّة لعموم ﴿كُلِّ فِرْقَةٍ﴾، فلو كانت فرقة في قرية لوجب خروج بعضهم للتَّفقُّه وإنذارهم، ولوجب عمل الباقين بإخبارهم وإن لم يتواتر، فإنه غير ممكنٍ فيه.

وفي الآية وجهٌ آخر، وهو أنَّ المؤمنين بعدما سمعوا ما أنزل الله تعالى في المتخلِّفين عن غزوة تبوك تسابقوا في الجهاد، فكان إذا بعثَ رسول اللّه جيشًا نفروا عن آخرهم وانقطعوا جميعًا عن استماع الوحي والتَّفقُّه، فأُمِروا أن ينفر من كلِّ فرقةٍ طائفةٌ ليتفقَّه الباقون في الدِّين، فلا ينقطع التَّفقُّه الذي هو الغرض من البعثة والجهاد الأكبر، فإنَّ الجدال (٢) بالحجَّة أعظم أثرًا من الجدال بالسَّيف، ولينذروا قومهم النَّافرين إلى الجهاد إذا رجعوا إليهم.

وعلى هذا الوجه فالضمير في ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ و ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ و ﴿إِلَيْهِمْ﴾ للفرقة الباقين، وفي ﴿رَجَعُوا﴾ و ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ للطَّائفة النَّافرين، وفيه تشتيتُ الضمائر،


(١) في (ك): "النفقة" في الموضعين.
(٢) في (ك): "الجهاد".