عندهم كبير لم يجدوا ما يملئوه به إلا الاجتماع في الأسواق والدور وأهون ما تملأ به هذه المجالس هي المحادثة فلا عجب أن برع هؤلاء في أساليبها وتذوقوا بليغها وطربوا لبيانها وبديعها.
ولا عجب أن عقدوا للكلمة أسواقا١ يعرضون فيها قصائدهم وخطبهم وأن ترسل كل قبيلة وفدها يلتف حول شاعرها يمدح قبيلته ويمجد مآثرها ويعلن محاسن قومه والناس يصدقون الشاعر، وإن كانوا يعلمون كذبه ويرددون أبياته وإن كانوا يعرفون مبالغتها أو افترائها.
ولا عجب ما دامت هذه مكانة الكلمة أن تهون قبيلة إذا هجيت بقصيدة وإن كانت كاذبة وأن يرفع أتباع القبيلة رءوسهم فخرا إن مدحوا بقصيدة، وما ذاك إلا لسلطة الكلمة بينهم فالكلمة في تلك الفترة لها سلطتها ترفع فيهم وتضع.
وحين أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة خيرا واقتضت حكمته أن يبعث إليهم رسولا يخرجهم من الظلمات إلى النور؛ جاءت المعجزة وفق سنة الله في إظهار المعجزات التي جاءت على أيدي الأنبياء من قبله. فكانت معجزته -صلى الله عليه وسلم- من جنس ما تفوقوا فيه وملك ألبابهم وسيطر على عقولهم جاءت معجزته قرآنا يقرأ ويسمع ويمسك البلاعة من أطرافها ويملك الإعجاز من مجامعه.
وحين ناوءوه وحاربوه وطاروده هو وأهله وعشيرته وأصحابه وبذلوا كل ما يستطيعون للقضاء على دعوته أظهر لهم سبيلا واحدا لذلك إن استطاعوا بأن يأتوا بمثل هذه القرآن أو بمثل عشر سور أو بمثل سورة أو بمثل حديث منه وكان هذا العرض أشد عليهم مما هم عليه من حربه لأنهم في حربه يؤملون القضاء على دعوته أما فيما تحداهم فيه فإنهم يعرفون سلفا عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن ومن ثم لم يحاول أحد منهم -مجرد محاولة- أن يأتي بمثل هذا لأنه يعرف -سلفا- أن لا سبيل إلى ذلك وأن
١ مثل سوق المُشَعَّر بالبحرين وسوق الشَّحْر بين عمان وعدن وسوق ذي المجاز في عرفة بمكة. وسوق مجنة وسوق عكاظ بالطائف وسوق حباشة بمكة.