للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سبق جمع بين الروايتين البصرية والكوفية. وأما الخلاف الواقع بين هاتين المدرستين، فإنه لا يعود إلى زمن تأسيسها، بل إلى أواخر القرن الثالث للهجرة "التاسع الميلادي" وهو ناشئ عن العداوات الشخصية بين رئيسي المدرستين حيئنذ، وهما: المبرد في البصرة، وثعلب في الكوفة٨٥. ولكن الخلاف كان واضحًا بين المدرستين في المنهج، فالبصريون كانوا يتجهون إلى إدخال كل شيء إلى ضمن قواعد ثابتة، وهم كالفقهاء يلتزمون القياس، ويجعلون ما سواه خطأ، وإذا كان مسموعًا قالوا: شاذ لا يقاس عليه: أما الكوفيون فيفسحون المجال للاستعمال، ورأوا أن يحترموا ما جاء عن العرب، وأجازوا استعماله، ولو كان لا ينطبق على القواعد العامة. ومن ثم "كان ٨٦ البصريون أكثر اعتدادًا بأنفسهم، وأكثر ثقة بما يروون، وأشد ارتيابًا بما يرويه الكوفيون. لذلك كان الكوفي يأخذ عن البصري، ولكن البصري يتحرج عن أن يأخذ عن الكوفي ... وظل الحال كذلك حتى تأسست مدينة بغداد "في أواخر القرن الثالث" وهدأت الأمور السياسية، وأخذ الخلفاء والأمراء يشجعون العلماء، ويدعونهم لتربية أولادهم فتسابق العلماء إلى بغداد.. وكان التقاء الكوفيين والبصريين في بغداد سببًا في عرض المذهبين ونقدهما والانتخاب منهما، ووجود مذهب منتخب كان من ممثليه ابن قتيبة.

وقد أدى التنافس والعداء الشخصي الذي كان بين الرواة كالذي كان بين أبي عبيدة والأصمعي، وهما بصريان، والذي كان بين المبرد البصري وثعلب الكوفي، إلى تدقيق الرواة فيما يأخذون، وتمحيصهم لكل ما يسمعون فكانوا على حذر دائم تجاه ما ينقل إليهم، يحصرون أذهانهم، ويوجهون كل وعيهم لكل ما يسمعون سواء من الأعراب أو من الرواة، فيمحصون ويقابلون بين مختلف الروايات، ولا يقبلون شيئًا إلا بعد التحقيق والتثبت من صدقه وحقيقته، خوفًا من نقد الزملاء، أو تشنيع الأعداء، وحبا في الشهرة بالأمانة والنزاهة والدقة، بل كان كثير من جمهور السامعين لديه من الفطنة وسعة الاطلاع، وقوة الذوق الأدبي ما يمكنه من معرفة الصحة والزيف في كل ما يلقى أمامهم من نصوص. فكان العلماء رقباء على الرواة، كما كان الرواة رقباء على الأعراب الذين ينقلون عنهم، وكتب الأدب فيها


٨٥ تاريخ الأدب العربي لبلاشير صفحة ١١٩.
٨٦ ضحى الإسلام جـ٢ صفحة ٢٦٠.

<<  <   >  >>