للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كثير من الحوادث التي تؤيد ذلك، منها ما أورده ابن سلام إذ يقول: "أخبرني أبو عبيدة أن داود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح العطاردي، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته، وكفيناه ضيعته، فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويصنعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها لمتمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله"٨٧. فلم يكن الرواة على العموم، يقبلون كل ما يلقى إليهم، دون فحص وتمحيص، ولم يكن كل ما يقوله الرواة ليسمع منهم ويقبل دون حجة أو برهان. فالتنافس وما جره في بعض الأحيان من خصومات، أفاد النصوص الأدبية، إذ حمل الرواة على الاستزادة منها بقدر ما يستطيعون، مع التثبت والتحري الدقيق في كل ما ينقلون.

ومما ذكرناه عن الرواة، يتبين أنه كان فيهم بصريون وفيهم كوفيون، وفي كل من الفريقين أمين ثقة، ومنهم مطعون في أمانته، فكما كان في البصريين ثقات عدول، كان ذلك في الكوفيين أمناء مصدقون، وكما كان في الكوفيين من ليس أهلًا للثقة، كذلك كان في البصريين من أثر عنهم الخلط والادعاء، فمسألة الثقة وعدمها ليست متصلة ببلد، ولا بمدرسة معينة، إنما هي تتعلق بطبيعة الشخص وأخلاقه، وميوله ونزعته. ومن ثم فلا ينبغي أن يرمى الرواة كلهم بالطعن والاتهام، لوجود من يطعن في نزاهته من بينهم، كما لا يصح أن نشك في رواة بلد معين أو مدرسة، لأن من بين رجالها من كان موضع الشك والاتهام، فالكل لا يؤخذ بجريرة بعضه، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فمن كان ثقة أمينًا، فهو عدل، مصدق، يقبل منه ما يقول، ما دام لا يوجد ضده دليل قوي ولا برهان ثابت محقق.

وواضح أن هؤلاء الرواة الذين ذكرناهم كانوا يعيشون في المدن، فهم من أهل الحضر، وليس معنى هذا أن البدو لم يكن منهم رواة، بل كان منهم رواة كثيرون، وقد ذكر منهم صاحب الفهرست عشرات، ومن بينهم:

أبو البيداء الرياحي٨٨: أعرابي نزل البصرة، وكان يعلم الصبيان بأجر.


٨٧ طبقات فحول الشعراء، ص١٤.
٨٨ الفهرست، ص٧٢.

<<  <   >  >>