يرسلون في طلب عالم أو راوية لسؤاله عن خبر أو قصيدة شعرية. وكتب الأدب والتاريخ مملوءة بذكر الأمثلة الكثيرة في هذا الشأن. وقد كانت الفرحة تعم نفوسهم، والبشر يعلو وجوهم حينما يجدون الجواب الشافي عند من يسألونه فتنفرج أساريرهم، وتنبسط أيديهم عن واسع السخاء وكريم العطاء. ومن هنا تسابق الرواة في الحفظ والجمع والتدوين، حبًّا في الشهرة، وطمعًا في الغنى والثراء. وهذا ولا شك كان له أكبر الأثر في شحذ الهمم للبحث والتحصيل، فجمع بذلك شيء كثير من الأدب الجاهلي، وربما كانت الرغبة في حسن الصيت وكثرة الغنى، سببًا في دفع بعض الرواة إلى الاختلاق كما رأينا في سيرة بعضهم، ولكن المتنافسين والعلماء والنقاد كانوا لأمثال هؤلاء بالمرصاد، وقد أوردنا أمثلة لذلك فيما سبق.
وتدوين النصوص الأدبية بالصورة التي وصلت إلينا بها الآثار الجاهلية تبدو فيها ظواهر كثيرة ترجع إلى عوامل شخصية أو نفسية أو عقلية أو وجهات نظر مختلفة لدى الأدباء أنفسهم، أو الرواة أو القائمين بالتدوين.
فمما لا شك فيه أن كل عملية من الحفظ والجمع والتدوين تخضع خضوعًا كبيرًا للذوق الشخصي، فكل فرد له ميول خاصة، وأهواء معينة، فهذا يميل إلى نوع، وذاك إلى آخر وهكذا، بحكم اختلاف الأشخاص في الشخصيات، والميول، والرغبات، ومن ثم نجد الرواة قد يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا في الكم والكيف، فقد يميل بعضهم إلى حفظ شيء معين، وبعضهم يميل إلى شيء آخر، وإن اتحدوا في النوع فقد يختلفون في الكم، فهذا يحب حفظ القطع الطويلة وذاك يحب المقطوعات القصيرة. ومع أن العرب كانوا يحرصون على الآثار الأدبية حرصهم على أعز الأشياء؛ لأنهم كانوا يعدونها من أهم الأشياء الضرورية لهم، فإننا مع ذلك نرى بعض القصائد فيها اختلاف بين الروايات بعضها وبعض، مما يدل على أن الرواة لم يكونوا يتفقون في حفظ القصائد، فنجد مثلًا قصيدة تروى طويلة في بعض الروايات وهي نفسها تروى في رواية أخرى قصيرة، وقد تجيء في رواية ثالثة أقصر من الأوليين، ويعلل بعضهم ذلك بأن النفس يبقى فيها ما ترى أنه أوثق اتصالًا بحالتها القائمة، وأصدق تعبيرًا عنها، أما بقية القصيدة مما لا يمت إلى نفس الذي يحفظها بسبب، فليست في حاجة إليه، ولذلك يكون مثل هذا الجزء أقرب إلى أن يضيع ويذهب أو ينسى من الذاكرة.
وإن النفوس تتباين، والبواعث على قراءة الأدب وحفظه وتدوينه مثل البواعث على