للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على أن الثراء كان غالبًا يظهر في بعض أشخاص من الحضر الذين يعيشون على التجارة والزراعة، ومن هنا كان الربا يوجد عادة بين أهل المدن ولم نسمع عن أحد من الشعراء الحضريين، أنه كان يشتغل بإحدى هاتين المهنتين، فكان ثريًّا ثراء يمكنه من التعامل بالربا، أو أنه كان فقيرًا اضطر إلى مد يده لأحد الأغنياء ليقرضه على أن يرد أكثر مما أخذ.

واستبعاد التعامل بالربا بين شعراء البدو أكثر احتمالًا؛ ذلك لأن التعامل بالربا لا يكون عادة إلا بين قوم في حياتهم استقرار، وفي ظروفهم ما يعمل على وجود ثقة متبادلة بين الدائن والمدين، فالمقرض، حتى بالربا، لا يعطي ماله لأي شخص دون أن يكون واثقًا من مقدرته على السداد من جهة، ومن إمكان العثور عليه بسهولة وبخاصة عندما يحين ميعاد السداد، من جهة أخرى، وذلك لا يكون إلا بين سكان المدن والقرى، الذين يستقرون فيها، ويعرف بعضهم بعضًا مثل مكة ويثرب والطائف واليمن، بعكس البدو الذين كانوا يسهل عليهم التنقل، ومن ثم يستبعد أن كان هناك تعامل بالربا بين سكان البدو على وجه العموم، وبين الشعراء على وجه الخصوص. وإذا علمنا أن معظم الأدب الجاهلي منسوب إلى شعراء البدو، فلن تكون هناك غرابة إذا لم يوجد ذكر للربا في الأدب الجاهلي، لهذا لا ينبغي أن يكون ذلك نقيصة في الأدب الجاهلي، وسببًا في رميه بأنه لا يصور الحياة الاقتصادية في العصر الجاهلي.

على أن هذه الناحية بالذات، أعني التعامل بالربا ظاهرة موجودة بين الناس في جميع العصور ولم نرها سجلت في دواوين الشعراء، أو احتلت مكانًا بين الظواهر المثيرة الأخرى التي حركت مشاعر الأدباء٤٥، فهل يجوز لنا حينئذ أن نقول: إن أدب عصر من هذه العصور لا يصور الحياة الاقتصادية لأمة ذلك العصر لأنه لم يتحدث عن الربا.

ثم لماذا يخص الربا دون غيره من الموضوعات الاقتصادية الأخرى، فهناك مثلًا: الرهن الضار، والتلاعب بالأسعار، وإخفاء السلع، والإتجار بها في السوق السوداء، وأساليب البيع العجيبة التي كانت منتشرة بين الجاهليين، وهي تتضمن أنواع الخداع والتحايل والمكر


٤٥ حقيقة قد وجد بعض الأمثلة التي تتحدث عن الربا كتاجر البندقية لشيكسبير، ولكن هذه الأمثلة قليلة ونادرة بحيث يمكن أن تعد في حكم المعدوم، مما يجعلنا نقول: إن الحديث عن الربا ليس ظاهرة أدبية عامة بين جميع الأمم في كل العصور.

<<  <   >  >>