للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشعر الجاهلي: أصادق هو أم كاذب؟ فالشعر الجاهلي يمثل لنا العرب أجوادًا كرامًا مهينين للأموال، مسرفين في ازدرائها، ولكن في القرآن إلحاحًا في ذم البخل، وإلحاحًا في ذم الطمع، قد كان البخل والطمع إذن من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية ... إن العرب في الجاهلية لم يكونوا كما يمثلهم هذا الشعر أجوادًا منفقين للمال، مهينين لكرامته، وإنما كان منهم الجواد والبخيل، وكان منهم المتلاف والحريص، وكان منهم من يزدري المال، ومنهم من يزدري الفضيلة والعاطفة في سبيل جمعه وتحصيله".

وهذه النقطة أيضا لا ينبغي أن تكون سببًا في الطعن في الأدب الجاهلي ورميه بأنه لا يصور هذه الناحية الاقتصادية النفسية من حياة العرب الجاهليين، ففي زعم الطاعنين هنا مغالطة واضحة؛ ذلك لأن الأدب الجاهلي اشترك مع القرآن الكريم في تصويرها تصويرًا دقيقًا، ففي كليهما ذم للبخل، ومدح للجود والكرم. فالقرآن الكريم ذم البخل وذم الطمع، والأدب الجاهلي ذم البخل وذم الطمع كذلك، وحينما يتحدث القرآن الكريم عن هذه الأمور وأمثالها، فإنه لا يقصد العرب وحدهم، وإنما يريد أينما وجدت. ولم يصور الأدب الجاهلي العرب قبل الإسلام أجوادًا كرامًا، مهينين للمال، مسرفين في ازدرائه، بل صور العرب بأنهم كان فيهم أجواد كرماء، وفيهم أشحاء بخلاء، ففي الأدب الجاهلي كثير من النصوص يهجو فيها أصحابنا أعدائهم بالبخل والشح، ويذمونهم بالطمع والجشع، وفيه كذلك كثير من النصوص التي يتغنى فيها أصحابها بالجود والكرم، ولكن لا ينبغي أن يغيب عن البال أن هذه النصوص التي تفيض بذكر الجود والكرم إنما تكون عادة في الفخر والمدح، ومن المعلوم البدهي أن المدح أو الفخر لا يكون له شأن، ولا يؤدي معناه الحقيقي إلا إذا كان بشيء نادر، أو عظيم، وليس شائعًا بين الناس، ولا في متناول الجميع، وإلا لما كان للمدح أو الفخر به أي معنى، وبهذا يتبين أن الجود والكرم، والسخاء والبذل والعطاء والإنفاق والإسراف والإتلاف، وغيرها من الصفات التي يتردد المدح والفخر بها في نصوص الأدب الجاهلي، كانت صفات غير متيسرة للجميع، ولا يتصف حقيقة بها جميع العرب. ولكن ليس هناك ما يمنع من أن يدعيها لنفسه كل فرد وكل قبيلة، وما كل ما ينسبه المرء لنفسه صحيح، ولا كل ما يدعيه واقع وحق، ومن المعروف أن الشعر فيه كثير من الأماني والأحلام.

ثم يذكر الدكتور طه بعد ذلك جزئيات يدعي أنها ذكرت في القرآن الكريم، ولم تذكر في

<<  <   >  >>