للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومما يثير الدهشة أن ينصح الدكتور طه حسين الباحثين والمتطلعين إلى تصوير الحياة الجاهلية بالبحث عنها في الشعر الأموي نفسه؛ لأنه لا يعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب، ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية، فحياة العرب الجاهليين في نظره ظاهرة في شعر "الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبي خازم".

وسبب هذا الدهش أن الدكتور طه يعترف بأن الأدباء العرب في العصر الأموي كانوا متمسكين بالمحافظة على التقاليد الأدبية التي كان يتمسك بها العرب القدماء، وهذا معناه أنه كانت هناك تقاليد أدبية قبل الإسلام، هي التي استمسك بها الأدباء الأمويون، ومن قبلهم بالطبع. وهذا معناه كذلك اعتراف بنتاج أدبي كان موجودًا في العصر الجاهلي، وأن هذا النتاج ظل موجودًا حيًّا حتى اقتدى به الأدباء في العصر الأموي وساروا على منواله، وترسموا خطاه. وهذا يفيد أنهم عرفوا النصوص الجاهلية الصحيحة، فجاء أدبهم تقليدًا صحيحًا كاملًا من جميع الوجوه، ومعنى ذلك أيضا أن الرواة الذين حملوا هذه النصوص الجاهلية التي قلدها الأدباء الأمويون، كانوا موضع ثقة واحترام من العلماء والأدباء وبخاصة هؤلاء الشعراء الذين سماهم الدكتور طه حسين، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نثق بالتقليد وهو أدب الشعراء الأمويين ولا نثق بالأصل وهو الأدب الذي استمسك بالمحافظة على مذهبه الأدباء الأمويوين، وساروا على أسسه ومبادئه! وأيهما أولى بالتصديق والقبول: الأصل أم صورته؟

وكيف تكون حياة العرب الجاهليين في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي، أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبي خازم؟. أذلك لأنه مختلف ومنحول ولم يقله من نسب إليهم، أم لأن صانعيه لم يوفقوا فيه إلى تصوير الحياة الجاهلية تصويرًا دقيقًا؟ إن كان الاحتمال الأول، فأقصى ما يمكن أن يقال حينئذ إنه اختلق في عصر الجمع والتدوين وذلك كان زمنه حوالي زمن هؤلاء الشعراء الذين سماهم ومن ثم لن يكون هناك فرق بين أدباء الدولة الأموية والأدباء الذين اختلقوا هذا الأدب ونسبوه إلى أدباء العصر الجاهلي، لن يكون هناك من فرق بين هؤلاء وأولئك لا من حيث الاتصال بالحياة العربية القديمة، ولا من حيث الإلمام بالتقاليد الأدبية، ومعرفة أساليب

<<  <   >  >>