للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد ذكر بعض المستشرقين أن اتحاد القافية في القصيدة في الشعر العربي، نشأ عن الحاجة إلى إعانة الذاكرة في عصر كان لا يعتمد في حفظ الأشياء فيه إلا على الذاكرة. كما أرجعوا إلى السبب نفسه تمسك العربي بوحدة البيت الواحد، وضرورة تمامه بنفسه.

ولا شك أن وحدة الوزن والقافية في القصيدة الواحدة، تساعد الذاكرة على تلقيها بسرعة وسهولة، كما تعمل على بقائها فيها مدة أطول، وعلى ترديدها وقت الحاجة في يسر وتتابع.

كما أنه لا ريب في أن وحدة الوزن والقافية في القصيدة الواحدة، وبخاصة إذا كانت طويلة تدل على اتساع الأفق اللغوي، وامتلاك زمام البيان، ودقة الحس الفني، وقوة النفس الشعري لدى الشاعر، وأعتقد أن العرب في تمسكهم بوحدة الوزن والقافية والبيت في شعرهم، كانوا يقصدون السمو بالشعر، والاحتفاظ له بدرجة عليا، بحيث لا يصل إليها إلا من توافرت فيه مؤهلات خاصة، وكفاءات فنية ممتازة، بحيث يكون قادرًا على التزام وحدة الوزن والقافية والبيت، مهما كان طولها، وواضح أن هذا يتطلب ثروة لغوية هائلة، وثقافة أدبية واسعة، ومقدرة فائقة على التنويع والتطوير في التعبير والتصوير.

لكن وحدة البيت الواحد في القصيدة التي تعني استقلاله استقلالًا تامًّا في تركيبه وبنائه عن سابقه وعن لاحقه، ليست مما يعين الذاكرة على حفظ القصيدة بأكملها. بل إن ذلك ربما كان سببًا في حدوث شيء من الخلط في نظام القصيدة ومواضع الأبيات فيها، مما يظهر القصيدة في بعض الأحيان مختلطة مضطربة في الترتيب والنظام، ومن المعلوم، أنه كلما تماسكت أجزاء القصيدة بتشابك كل بيت فيما قبله وفيما بعده بأي نوع من أنواع الترابط، كانت أشد بناءً وأحكم نسجًا، فتجيء القصيدة كلًا واحدًا كالسلسلة الواحدة المتصلة الحلقات، المتينة الأحكام، فتتحقق فيها الوحدة الكاملة. وذلك يجعل القصيدة أسهل حفظًا، وأسرع علوقًا بالذهن، وأكثر بقاء في الذاكرة. وأيسر تذكرًا، وأكمل إلقاء، وأضبط رواية. وهذا الترابط الوثيق بين أبيات القصيدة، وبخاصة إذا كانت طويلة له الفضل الأكبر في حفظها تامة وروايتها كاملة. فحينما تجيء القصيدة مترابطة الأبيات في جميع أجزائها، تأتي كأنها قصة تسوق كل جزئية من الراوي أو القارئ أو السامع إلى ما يليها، كأنما ينتقل إليها من تلقاء نفسه بدون شعور بأدنى عسر أو مشقة.

وإذا وجد اضطراب في ترتيب بعض الأبيات في قصيدة جيدة، فأغلب الظن أن ذلك

<<  <   >  >>