للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا نظير له بحيث لا يوفي به قتيل. ولعل ذلك كان لاستثارة شعور القوم للأخذ بثأره عن طريق غير مباشر.

وكل المعاني التي قيلت في الفخر، قيلت كذلك في المدح، إلا أن المداحين المحترفين زادوا عليها. ووسعوا فيها: فشن الغارات وقيادتها زيد عليه بأن جعلت الغارات كل عام، وتشن في زمن الشدة. ويطول زمنها، فيوصل الشتاء بالربيع، ويمتد خطرها فتوغل في الجهات النائية حتى تستولي على إبل العزاب، وغنائمها كثيرة، يعم خيرها حتى تجعل الفقراء المعدمين من ذوي الثراء العريض، والخيل في الغارات لا تبذل مجهودًا كبيرًا فحسب، بل تنهك قواها. فتغزو سمانا، ثم تعود خوص العيون، هزيلة تلقى أفلاءها في الطريق، والبطل الممدوح ليس شجاعًا فقط، أو كالليث العادي، بل ليث صفته كذا وكذا، وجيوش الممدوحين ليست قوية فقط، بل نصرها محقق مؤكد، وأسلحتهم ليست حادة فحسب: بل ذت تاريخ مجيد، تغوص في اللحم. وتقطع العظام، وتكسر الجماجم، وتتعدى الأجسام إلى الصخور فتفتتها، وتطير منها الشرر، فالمبالغة لدى محترفي المدح ظاهرة واضحة.

ليس هناك فرق كبير بين المدح والفخر في شعر القوم الذين لم يتخصصوا في المدح، فشعرهم في الحالتين يكاد يكون واحدًا لولا أن الفخر إشادة بفضائل النفس. والمدح تمجيد لفضائل الآخرين. فشعر هؤلاء في هاتين الناحيتين عادي. بل إننا نلمس أن شعرهم في المدح قد يقل في المستوى عن شعرهم في الفخر، فإذا رجعنا مثلًا إلى قصيدة عامر بن الطفيل التي يمدح فيها بني الحرث بن كعب نجد أن مستواها أقل من مستوى شعره في الفخر.

أما الذين تخصصوا في المدح، فالحال عندهم مختلفة، يرتفع مستوى مدحهم عن مستوى فخرهم. فهم في المدح يولدون الأفكار، ويبالغون ويتأنقون في طريقة العرض. وباعهم في الفخر، على العموم، قصير، وليس لهم فيه إلا أبيات قليلة. في حين أننا نجد دواوينهم تكاد تغص بشعر المدح: على أن ما ورد لهم من شعر في الفخر، يقل في مستواه عن مستوى الفخر لدى غيرهم من الشعراء. وهذا يدلنا على أن الخبرة وكثرة المران في ناحية معينة، لهما أثر كبير في تقوية الموهبة في هذه الناحية. هذا، ولا يغيب عن خاطرنا أثر المنح والمكافآت في شحذ العقل وإعمال التفكير.

ولكن أليس الوازع القبلي يفوق الوازع المادي أو يعادله على الأقل؟

<<  <   >  >>