العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ٨.
فالجاهلية من حيث كونها اسمًا لزمن تطلق على الفترة التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولا تطلق على زمن بعد هذه البعثة. أما من حيث كونها صفة فقد يوصف بها بلد غير إسلامي، وقد يوصف بها الشخص قبل أن يسلم، وقد يوصف بها شخص مسلم توجد فيه صفات الجاهليين، فهو جاهلي وإن كان من أهل الإسلام، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن. الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقوله عليه الصلاة والسلام لأبى ذر لما عير رجلًا بأمه:"إنك امرؤ فيك جاهلية".
فالعرب على هذا كانوا قبل الإسلام جاهليين: في زمن جاهلي، وهم كانوا جاهلين، أي غير عالمين، أو غير متبعين ما يقتضيه العلم. وهل كان العرب قبل الإسلام حقا كذلك؟ إن هذا الرأي يفسر الجهل بما يناقض العلم، ويفسر الجاهل بغير العالم، أو بمن يفعل فعل غير العالم، ومقتضى هذا أن العرب قبل الإسلام لم يكن لديهم علم البتة، أو كان لديهم علم ولكن سلوكهم كان على غير مقتضاه. والظاهر أن الاحتمال الثاني هو الأقرب للصواب، بل هو الصواب، فلم يكن العرب في ذلك الوقت جاهلين جهلًا ينافي العلم، فقد ثبت أنهم كانوا أهل ذكاء ودراية وخبرة، وكان فيهم أذهان صافية، ونظرات صادقة في الطبيعة وأحوال الإنسان بما لا يقل عن بعض نظرات الفلاسفة والباحثين والمفكرين. ويحكي لنا التاريخ كثيرًا عما كان في جزيرة العرب في ذلك الوقت، مما يدل على أنهم حينئذ لم يكونوا في جهل تام، بل كانوا على شيء من العلم والتفكير.
فما يروى لهم من الشعر يدل على صفاء نفوسهم، وصدق عواطفهم، ورقة إحساساتهم ومشاعرهم، ووصول شعرهم إلينا وهو على هذه الحال من النضج والكمال يدل على أنهم كانوا قد قطعوا أشواطًا كبيرة، واستعملوا فيها عقولهم وتفكيرهم وأذواقهم في مجال التعبير والتصوير حتى وصلوا بفنهم إلى هذه الدرجة العليا من الدقة والعذوبة والجمال. ثم إن