ما تضمنه هذا الشعر، وما نسب إليهم من نثر: من معانٍ سامية، وأفكار ناضجة، وإشارات عديدة إلى شيء من العلم، وبخاصة في الطب يدل على عقلية ميالة إلى التفكير، قوية الملاحظة، وربما تكون هذه الإشارات من الأمور البدائية التي تعتمد على المصادفة، أو تستنتج عن طريق التجربة، ولكن هذا، ولا شك، يدل على يقظتهم ووعيهم، وتنبههم إلى ما حولهم، وقدرتهم على استكشاف ما في الكائنات من أسرار، وذلك كله لا يصدر عن جاهل ولا يكون إلا عن طريق العقل الكامل والتفكير السليم.
وأسلوب القرآن الكريم وهو في أرقى درجات الفصاحة، وأقوى مراتب البيان، يدل على ما كان لهم من تقدم ورسوخ في ميادين البلاغة وروعة التعبير، فقد كانوا يفهمونه ويدركون مقاصده، وأكثروا من الجدل والمناقشة حوله، وذلك لا يتسنى لجاهل ليس لديه شيء من علم أو معرفة أو خبرة أو دراية.
ثم إن آثارهم العظيمة التي يتحدث عنها التاريخ من مدن فخمة، ومبان شاهقة، وأعمال هندسية وفنية، ونظم في المعيشة، والسياسة، والتجارة والحروب وأدوات القتال وغيرها، وما قيل عن معارفهم وتجاربهم وخبراتهم في نواحٍ متعددة تدل على تفكير عقلي سليم، وإدارك قوي صحيح.
كل هذا ينفي عن العرب قبل الإسلام الجهل الذي ينافي العلم على الإطلاق، اللهم إلا إذا خصصنا هذا الجهل بناحية معينة، وهي الناحية الدينية، ففي هذه الحالة يكون وصف العرب قبل الإسلام بالجهل الديني وصفًا معقولًا، ومطابقًا للواقع. فالعرب قبل الإسلام كان فيهم المشركون والمجوس واليهود والنصارى وغيرهم، ولكنهم على العموم كانوا، قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في ضلال ديني، وظلام دامس في العقيدة، وما كانوا يعرفون الدين الصحيح، فلما جاء الإسلام كشف لهم الحقيقة وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فأزاح عنهم جهل العقيدة، وأسبغ عليهم نور العلم بحقيقة الله، والعلم بالعقيدة الصحيحة والدين القويم.
هذا إذا فسرنا "الجاهل" الذي كان وصف العربي قبل الإسلام بغير العالم، أما إذا فسرناه بأنه من يفعل فعل غير العالم أي من يقول قولا، أو يعمل عملا يتنافي مع علمه، فإن هذا الوصف كذلك ينطبق على العربي، بوجه عام، قبل البعثة، فما أثر لهم من أقوال، وحكم، ونصائح، وأعمال، يتنافى مع ما أثر عنهم من سلوك في كثير من مظاهر الحياة،