كالعنف، والظلم، وسيادة القوة والسلاح والإسراف إلى حد الإتلاف، وتقديس ما لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا.
هذا هو ما يمكن أن يقال عن الجهل الذي وصم به العرب قبل الإسلام إذا فسر الجهل بأنه ضد العلم. ولكن إذا فسر هذا الجهل بأنه ضد الحلم كان كذلك تفسيرًا سليمًا صحيحًا مطابقًا تمامًا لحال العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحلم سيد الأخلاق، وتندرج تحته جميع الخصال الحميدة، وأرقى درجات السلوك الإنساني الحكيم. والجهل الذى ينافي الحلم معناه: السفه والحمق والتهور وعدم القدرة على ضبط النفس، وسرعة الانفعال، واشتداد ثورة الغضب، والاندفاع في غير تريث ولا تفكير، وهذه كلها كانت صفات منتشرة بين العرب قبل الإسلام، فكان العربي يثور لأتفه الأسباب ويشعل نار الحرب إذا توهم إساءة، أو ظن ظنًّا، ولو خطأ، دون أن يتريث، أو يتحرى الحقيقة. وقد ورد استعمال لفظة "الجهل" ومشتقاتها في هذا المعنى كثيرًا. فمن ذلك قوله تعالى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} ٩. وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل". وقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالجهل هنا يقصد به السفه والحمق والتهور وعدم ضبط النفس وفقدان سيطرة العقل، وعدم السلوك الحكيم.
ولكن لا ينبغي أن يغيب عن البال أن ذلك كان حال القوم في مجموعهم، لأنه لم يكن كل واحد منهم موصوفًا بهذه الصفات التي تتنافى مع العقل والحكمة والاتزان والروية، فقد كان هناك أفراد اشتهروا بالعقل السديد والرأي الصائب، وبعد النظر، وحسن السلوك والسيرة، وكانت سمتهم الظاهرة الحكمة، حتى إن العرب اتخذوهم حكامًا، يستشيرونهم في شئونهم ويحكمونهم في أمورهم، ومن هؤلاء، الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني مرار في ميراثهم، وأكثم بن صيفي حكيم تميم وعالمها بالأنساب، وحاجب بن زرارة التميمي كذلك، وكان على معرفة تامة بأخبار العرب وأحوالها وأنسابها، وهو من مشاهير الفصحاء والبلغاء، وكذلك الأقرع بن حابس التميمي، وهاشم بن عبد مناف القرشي،