وقوله تعالى:{لَلَّذِي بِبَكَّةَ}[آل عمران: ٩٦]، جاء بالموصولية دون أن يقول الكعبة الذي هو علم البيت الحرام لزيادة الإيضاح؛ إذ قد اتخذت الحبشة الكعبة اليمانية في صنعاء فحجت إليها خثعم وبعض قبائل العرب.
«وبكة» اسم البلد الذي به الكعبة وهو مكة، فهو بالباء وبالميم في أوله، وقد ورد الاستعمالان معًا في القرآن، قال تعالى:{بَطْنِ مَكَّةَ}[الفتح: ٢٤]، والعرب يبدلون الباء ميمًا وعكسه إبدالًا غير قياسي ولا سيما مازن يقولون: با اسمك، أي ما اسمك، وقد نبه على هذا الإبدال أبو علي القالي في أماليه كقولهم: لازب ولازم، وقولهم: أربد وأرمد، وفي سماع ابن القاسم من العتبية أم مالكًا رحمه الله تعالى قال: بكة بالباء اسم موضع الكعبة، وبالميم اسم بقية البلاد، وقد اقتضت الآية أن الكعبة أول بيت وضع للناس، وظاهر هذا التركيب أنها أول بيت بني للبشر، وقد تناولت أفهام المفسرين هذه الآية بتفاسير مختلفة ونحن نشير إلى مجمل أقوالهم، ثم نتبعها بما نختاره في تفسيرها.
حمل قتادة ومجاهد والسدي وقليل من المفسرين الآية على ظاهرها بجعل الأولية حقيقية والناس على عمومه، فأما مجاهد وغيره فقد أحسوا بأن في بني آدم مباني سابقة الكعبة، فقالوا: إن أول من بنى الكعبة آدم، وكانت تسمى الضُّراح -بضم الضاد المعجمة- وأنه رفع إلى السماء في وقت الطوفان، فصارت الملائكة تطوف به وتسكنه في السماء، ثم بنى إبراهيم الكعبة في موضعه، ولهم في ذلك أحاديث وقصص، قال الشيخ ابن عطية في تفسيره: وقد رويت في ذلك أقاصيص ضعيفة الإسناد تركت ذكرها، وقال الفخر: أنكر ذلك الباقلاني وعلى هذه القصة بنى المعري قوله:
وقد بلغ الضراح وساكنيه ... ثناك وزار من سكن الضريحا
وأما السدي فقال: كانت الكعبة أول بناء في الأرض ولم يلتفت إلى ما كان قبل ذلك من البنيان، وهذا القول غير مستقيم، فقد كانت قبل إبراهيم مبانٍ كثيرة منها صرح بابل بُني بعد الطوفان، ومنها بيت الأصنام في بلد الكلدان، وهو البيت الذي دخله إبراهيم وكسر الأصنام التي فيه كما أشار إليه القرآن وورد بيانه في الحديث الصحيح، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية: أكانت الكعبة أول بيت؟