للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذكر قليل منهم أن أبا معاوية حدث به، ثم كف عنه وعلى كل حال فكثرة الاختلاف فيه وشدة عناية الأئمة بالفحص عن رواته يؤذن بأنه حديث لم يكن معروفاً عند الحفاظ، وأنه طلع على هذه الأمة طلوع الشواظ.

[المراجعة الإجمالية]

هذا وإني أرى أن للاختلاف بيننا في قبول هذا الحديث مرجعاً نرجع إليه، وهو أصل الاختلاف في أصل عام يجري في هذا الحديث وأمثاله ألا وهو أصل تغليب جانب التهمة والحذر في قبول الرواة، أو جانب حسن الظن والتسامح، وهما مقامان معلومان من قديم لأئمة الحديثة وبها كان التفاوت في مراتب ضبط المحدثين وتمحيصهم ونقدهم.

فقد كان عمر بن الخطاب يقول: «المسلمون عدول بعضهم على بعض»، ثم لما حدثت شهادة الزور قال عمر: «لا يؤمَّر أحد في الإسلام بغير العدول».

ونشأ عن ذلك اختلافهم في هل الأصل في الناس هو الجرح أو العدالة؟ ومذهب المحققين، وفي مقدمتهم مالك بن أنس أن الأصل في الناس هو الجرْحُ فلذلك قال: لا يقبل مجهول الباطن وإن كان مستور الظاهر، وعلى هذا القول درج جمهور أهل التحقيق والضبط، ومن الناس من قال: الأصل في الناس العدالة وقبلوا مستور الظاهر وإن جهل باطنه، وإلى هذا ذهب الأقل منهم أبو حنيفة وابن فورك وسليم الرازي من الشافعية، ولكن إذا ظهر موجب الجرح بطل الخلاف، وفي الناس متساهلون يظنون الخير ويتلقون الأخبار عن كل مسلم إلى أن بلغ الحال ببعضهم أن عد تمحيص الرواة من قبيل الغيبة فأنكروه على ابن معين، فقال قائلهم:

ولابن معين في الرجال مقالة ... سيسأل عنها والإله شهيد

فإن كان حقّاً قوله فهو غيبة ... وإن كان زوراً فالعقاب شديد

وطريقة إمامنا مالك ونظرائِه أئمة النقد هي الطريقة المثلى وعليها كانت سننه في تهذيب كتاب الموطأ عاماً فعاماً، وقد قال ابن أبي حاتم: قلت ليحيى بن معين: لماذا مالك قلَّ حديثه؟ فقال: لكثرة تمييزه، وقد كان يأتي في ذلك بتشديد عمر ابن الخطاب في قبول الرواية عن رسول الله - رضي الله عنه - كما وقع في حديث أبي موسى الأشعري معه في كتاب الاستئذان في الموطأ وصحيح البخاري، وأن عمر قال لأبي موسى: (أما إني لا أتهمك؛ ولكني أردت أن لا يتجرأ الناس على الحديث

<<  <   >  >>