الغرض من هذه الآية: بيان شرف الكعبة لوقوع هذه الآية عقب قوله تعالى {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران: ٩٥]، وقبل قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران: ٩٧]، فعلمنا أنها مسوقة مساق الدليل لما قبلها؛ لأن شأن الدليل أن يقع عقب المطلوب ومساق المقدمة لما بعدها، وكلاهما مؤذن بالتعليل، والعلة أوضح دلالة من المعلول، فكان ذلك مؤذنًا بتقرر شرف الكعبة، وكل من الدليل والمقدمة طريق في صناعة الخطابة لإثبات مقصود الخطيب، والاستدلال يكون بطريق التدليل والتعقيب والمقدمة بطريق التصدير والتقديم، فالجمع في موقع هذه الآية بين الطريقتين من بلاغة القرآن وإعجازه الذي لم أر من نبه عليه، وتصدير الآية بحرف التأكيد من دون تقدم إنكار منكر ولا تردد تأكيد مقصود منه الاهتمام بالخبر، ومن شأن {إنَّ} إذا جاءت لمجرد الاهتمام أن تغني غناء فاء العطف وتفيد من التعليل والربط شيئًا عجيبًا، فيكون الكلام بها مستأنفًا غير مستأنف، مقطوعًا موصولًا معًا، كما فصله الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز، ومثله بقول بشار بن برد:
بَكَّرَا صاحِبَيَّ قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
وذكر قصة خلف الأحمر وأبي عمرو بن العلاء مع بشار في شأن هذا البيت، وإيقاع (إنَّ) في أول هذه الآية أدخل في الإعجاز بحيث نجد وقوعها متعينًا في بلوغ الكلام حد الإعجاز؛ لأنها مفيدة لتعليل ما قبلها؛ إذ هي بمنزلة فاء التفريع كما تقدم، وهي أيضًا مفيدة مفاد أداة الاستفتاح لما فيها من معنى الاهتمام الذي يناسب صدر الكلام؛ ولذلك قال الشيخ عبد القاهر:«فترى الكلام معها مستأنفًا غير مستأنف مقطوعًا موصولًا معًا» ولو وقعت الفاء في أول الآية لما صلحت إلا لتكون